عقدة الحذاء
_إنه شهر ايلول الجميل ،يوم منعش ،متحمسة للعودة . للعمل بعد عطلة قصيرة
أحمل رزمة كتب , ومذياع أبي القديم ، بإنتظار وصول الحافلة ..
صعدت آخر واحدة تقريبا ،لذا لم أجد مقاعد شاغرة ،كنت واقفة وسط رواق الحافلة الممتلىء ،قبل أن يقوم أحدهم، ويدعوني لأجلس مكانه ،كان تصرفا نبيلا منه صراحة .
شكرته بصوت منخفض ،لم أحاول تمييز شكله ، لكن أثار انتباهي حذاءه ، ذلك أنه كان يربط عقدته على شكل نجمة خماسية بيضاء ، كانت هذه أول مرة أرى هكذا عقدة! تساءلت عن السبب ،ربما هي موضة الشباب هذه الأيام ،أو انه ينتمي لمنظمة عسكرية ما ،ربما وفاء لذكرى من طفولته ، امممم بل هي رمز لعلم وطنه ،يا إلهي ماذا لو كانت ترمز لعالم الجن والسحر ونبله هذا تعويذة شريرة ما وأنا كالبلهاء جلست عليها !
فجأة بدأ رذاذ المطر يضرب النوافذ ،ليقوظني من هواجسي الغريبة..
الأمطار تهطل بغزارة فور نزولي من الحافلة، اسْتَهْطَعَت في سيري كي لا تتندى ثيابي ،لكنها كانت أسرع مني ، لولا أن امتدت يد لتسلمني مظلة ،أمسكتها دون تردد وقبل أن ألتفت لمعرفة من فعل ذلك،كان قد سبقني راكضا في نفس الإتجاه الذي أمضي إليه .
وضعت المذياع عند عامل التصليح ،بعد بضع خطوات ،كنت أخيرا أمام المكتبة العامة ،مكان عملي الجميل ...
كان مُبْتَلٌّ الثياب يتحدث مع من يرافقه عند المدخل ،وصل لمسامعي جملته الأخيرة ابْتَل أنا أرحم من أن تبتَلَّ تلك الكتب المسكينة .وضحكا معا .
أها إذن هذا هو صاحب المظلة ،لم اكن المقصودة ،بل لأجل إنقاذ رزمة الكتب ،رغم انه فعل جيد ،لكنه يزعزع الأنا الأنثوي داخلي ،دون تردد
حملت المظلة ،وأعدتها له .
-,تفضل ،شكرا، بارك الله فيك .
استلمها دون ان ينطق بحرف ،وبلا مبالاة
استدرت مغادرة قبل ان تصدم عيني بالنجمة البيضاء
أنه هو نفسه ، لقد تأكدت الان ، نجمة ومظلة ، كيف علم أنها ستمطر ، إن لم يكن مختصا في علم الفلك ، او الأرصاد الجوية .غير ان تعجرفه المزعوم لا يتناسب مع طبيعة عمله المملة ..
كنت لأجزم بنسبة تعجرفه،لو رأيت شكل انفه
لكن الجميع يضع اقنعة تخفي ملامح وجوهم ، بسبب الجائحة التي سيطرت على العالم ،كأننا في حفلة تنكرية جماعية إحبارية . لكن دون مشروبات منعشة ،ودون موائد عامرة بمختلف كميات وأنواع الطعام الشهي ...اه لقد بدأت اشعر بالجوع ،حالما تخيلت المنظر .
كنت بصدد تنظيم وجرد قوائم الكتب الجديدة ،حين اتاني صوته
_سلام عليكم ،هل جلبتم روايات جديدة تخصى( باولو كويلو ) غير( الخيميائي )
_,إنه انت مجددا ،تمتمت في نفسي ، لحظة من فضلك
امممم هناك رواية( على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت )
-فقط ؟
-نعم .
طيب ممكن كتاب ( أسطورة سيزيف , ألبير كامو )هو موجود في القائمة القديمة .
-أعطيته الكتاب وغادر ، اكيد متعجرف مثله لن يهتم بفهم سبب بكاء امراة !
إجمالا الرجال كلهم لايحبون البكاء و النكد، رغم انهم أهم أسبابه ،لكن ماهذا العنوان الغريب ؟ ،ولما تبكي قرب النهر ،على كل حال قد لاتعود تاء التانيث لفتاة
ربما هي فراشة او سلحفاة ،حتما هي سلحفاة وصلت متأخرة عن قطيع السلاحف فجلست تبكي ..
،اثارت فضولي هذه الرواية سأقرؤها حتما .
بعد يومين اعاد الأسطورة ، وطلب رواية ( الأمير الصغير ) ، حين هممت بإرحاعة لمكانه
سقطت منه ورقة ،أها'، إنها بطاقة القراءة ،لفت نظري الخط الجميل ، قرأتها :
[]من المخيف أن ترى كيف يهلك (الذكاء) أقواما ويقذف بهم في محيطات الضلال والكفر المتلاطمة ثم لا يخرجون منها !.. أستغفر الله العظيم من شرّ ما قرأت وشر ما فعلت، وأسأله الهداية والثبات على الحق حتى ألقاه][
ضحكت من التعليق.
رأيه حول رواية( الأمير الصغير ) كان لطيفا وحماسيا :
" []قصة عجيبة حقا.. لا هي بقصة أطفال، ولا هي للكبار، كأن الكاتب عثر على تلك الشعرة التي تفصل بين السخافة والحكمة، فكتب كلاما بديهيا إلا أنه صادم ومؤثر، .. شاعرية جدا هذه القصة، حكيمة جدا، خيالية جدا، غريبة جدا، بريئة جدا، حزينة جدا، ناقدة جدا لسلوك الناس.. )
ثم طلب ( شيء من حتى ) لأحمد خالد توفيق .
" []أنصح بشدة بهذه الرواية؛ فقد تغير نظرتك كليا إلى اللغة العربية، وكيف كان الناس يتهافتون عليها كما نتهافت نحن اليوم على كرة القدم! "]
تعودت على قراءة مايكتب في البطاقات ، وصارت مرجعا مهما لي..وحافزا مشجعا على المطالعة..
توالت الأيام والأسابيع ، وصار ( صاحب النجمة ) جزء منها ،أقضي كثيرا من الوقت معه داخل المكتبة ،هو كقارىء وأنا كأمينة ، لم يكن يتحدث إلا نادرا ،عكس قلمه الفصيح ...
ثم قررت في إحدى المرات ان أسبقه بقراءة كتاب يقع ضمن سلسلة طلب أجزاءها بالترتيب ،وكاد يلحق بي ،لولا أن خربشت بسرعة على البطاقة
بأن هذا الجزء منعش للغاية ،وأني استمتعت كثيرا بتصفحه وأضفت بعض العبارات المادحة ،ووقعت بإسمي .
حين حضر ليستلمه ،قلت بمرح :لقد انهيته لتوي ،أنت محظوظ .
كنت أترقب اليوم الذي يعيد فيه الكتاب بشغف
متشوقة للغاية ،لمعرفة ماذا سيكتب أسفل تعليقي ،من يدري ؟
وابتسمت في خجل ، ارتبكت للغاية حين رفعت رأسي ورايته أمامي
تقابلت نظراتنا ، سلمني الكتاب ،أسرعت للبطاقة اقرؤها بنهم:
ماهذا ؟...! لا !!!! لا!!!!!!
كان كل ماكتبه نقدا لاذعا ،وأن هذا الجزء هو الأكثر بشاعة ،لما حواه من وحشية وعنصرية ودماء ،أشعرته بالغثيان ونصح بعدم قراءته لأصحاب القلوب المرهفة ...
سحقا ، ظننت اغلب الكتب ممتعة ،ومادام قرأ السلسلة كلها فذلك يستلزم
انه كان سعيدا بها ، لقد أخطأت التصرف ،ماذا سيظن بي الآن ؟
-لقد نسيت طلب كتاب جديد. من فضلك ( البيدق المعدني ) لنبيل فاروق.
كأني دجاجة رومية إقتنصها قسورة في لحظة مدمرة ، جزء كبير من روحي إنشطر بعيدا هاربا ،والباقي منها كان يبذل مجهودا جبارا للنظر إليه وتليية طلبه ،لم أستطع رفع رأسي نحوه سلمته ما أراد ،لكن ضحكته استفزتني فركزت نظري عليه بغضب ،وجدته يحمل بين يديه
هديتي لأخي سيف ،وضعها وغادر ، إنها لعبة إلكترونية اسمها (البيدق المسموم ), إشتريتها له لأنه مهووس بالشطرنج و ما يتعلق به .
كان مكتوبا على غلاف اللعبة ( إحذر ان تقع في الفخ ) ،لقد وقعت وانتهى الأمر ...
مر الشتاء والربيع وحل الصيف ،ومعه حانت عطلتي السنوية
انا في البيت ، دق الباب ،من بالباب ؟ إنه أحد الخطاب ،إنه موعده الذي حدد له ، لم اكن اعرف من هو الخاطب ،ولم يكن بالي مشغولا كثيرا بكشف هويته ..
نودي عليا كي اراه ويراني ، كي يحصل القبول أو الرفض منه أو مني
جلست مقابلة له وحالما استرقت النظر ،عرفته من لمح البصر
كي يمكنني ان انسى تلك العيون،إنه هو صاحب النجمة ،ارتعش قلبي ، وانفجرت مشاعر من الحنان نحوه.
حين غادرت غرفة اللقاء ذهبت مباشرة لمدخل الباب أبحث عن حذاءه ،إنها النجمة ذاتها لكن اللون مختلف.
تمت
نشرت لأول مرة بالمنتجع الأدبي ^^
التعليقات