لي زميلة في الكلّية، نحضرُ دائمًا نفس المحاضرات، نفس التطبيقات العملية في المستشفى لأنّنا من مجموعة واحدة. أنا أتململ بعد ربع ساعة وهي كذلك، ولو خيّرونا لفررنا من المحاضرة فراركَ من سَبُعِ أدغال.

لكنِّي حين أعود للمنزل، أجدها قد نشرَت على الإنستغرام فيديو ريلز يجمّع لحظات ليومها في الكلّية، فإذا بمحاضرة الساعتين المُملة تُختصر بصورة لطيفة هزّازة لباب الردهة تقرأ "الطابق الثالث عشر - جراحة العيون" وكذلك فيديو سريع يبدو جذّابًا لعتبة غرفة محاضرات النظري تقرأ "قاعة إبن حيّان" والحقُّ أن المحاضرات في هذه القاعة لو قُرِئت على إبن حيّان نفسه لأفاق وأطفأها وعاد لموته.

والمشي في قيظ بغداد المُهلك؟ يُختصر بفيديو لخطواتها تتمايل بحذاءٍ يلمَع، والظلُّ من خلفها يتبعها صبابة، في منظر يُصبي الحليم وإن كان لا يرى إلّا الأحذية.

أحقًا؟! هل حضرتُ نفس المحاضرات مثلها؟ هل مشيتُ في نفس الممر الذي مشت به؟ هكذا أتسائل أنا، فكيف يصنعُ المسكين الذي لم يُقبَل في كلِّية الطب مثلًا، وهو يرى هذه الحياة الجميلة لطلبتها؟ أم كيف سيلوم نفسه ذلك الذي لا يستطيع أن يلملم شُتات حياته، وهو يرى أنّ الناس يسعون لمستقبلهم بهذه الأناقة؟

إذا كان لديك حساب على الإنستغرام، فإذهب إلى خانة التصفّح Explorer ستجد عدد من المنشورات الشائعة، من كلِّ 10 منشورات ستراها، ستجد هناك فيديوين على الأقل، مدّتها 15-60 ثانية، هذه تدعى إنستغرام ريلز Reels

إذا فتحت أحد هذه الفيديوات، فستدخل في دوّامة لا تنتهي. حين تنتهي من الفيديو الاوّل، ينتقل إلى فيديو ثاني وثالث إلى ما لا نهاية. الفيديو يملأ الشاشة العمودية، لا تحتاج لتغيير وضعية هاتفك. كل فيديو يبدأ بموسيقى صاخبة أو بطريقة تجعلك -إن لم تكن مركّزًا أو هادفًا لشيء- تقضي نصف ساعة على الأقل على هذه الفيديوات، هناك زر باهت صغير على اعلى يسار التطبيق للخروج من الريلز، لكنَّك لا تراه.

إذا عدت للصفحة الرئيسية، صفحة المتابعين، ستجد أنَّ الداء قد إنتشر إلى أصدقائك، ستجد أنَّ بعضهم أصبح ينشر المنشورات بصيغة ريلز، وحينما تنتهي من مشاهدة الفيديو الخاص به، سيخرج لك فيديو ثاني وثالث، وتدخل في نفس الدوّامة من جديد.

مع زيادة سرعة الإنترنت، وإستخدام الهواتف الذكّية بكثرة، شاع استعمال الفيديوات العمودية (الرأسية على طول الشاشة) وتبّنت ذلك منصّات عديدة. تيك توك كانت صاحبة الثورة الأجرأ، ثمَّ تبعتها إنستغرام بالريلز، ويوتيوب بالشورتس.

وإستهداف الفيديوات الرأسية لا يأتي من فراغ، فقد نصَّت دراسة على أنّ 94% من الناس يحملون هاتفهم بشكله العمودي الرأسي (1) ودراسة أخرى (2) أجريت على مستخدمي إنستغرام من الجيل الجديد، جاءت نتيجتها أنَّ 70% منهم لا يقلب هاتفه عرضيًا عند مشاهدة الفيديوات.

ّلإنستغرام ريلز ميزات متعدّدة، وفيه عدد من العناصر التي تجذب صناع المحتوى من جهة، والمستهلكين من جهة أخرى. فهناك إمكانية لدمج عدد من المقاطع والصور في مقطع فيديو واحد سلس، يدعَّم بالموسيقى. وكلّما شاهد المستخدمون الفيديوات بكثرة، أو وضعوا إعجاباتهم وتعليقاتهم عليه، كان الفيديو أقرب للظهور في خانة البحث Reels لأناس غرباء، فتشيع وتعطي صاحبها جرعات من الشهرة.

قرأت تقريرًا (3) في موقع يهتم بالإتصالات والمعلومات الرقمية عن ظاهرة الريلز، وكان التقرير يحلّل الأثر النفسي للظاهرة، فوجد نتائج عديدة منها أنّ من يميل لتعظيم قيمة نفسه، وينطوي على بعض الصفات النرجسية، يميل لصناعة هذه الفيديوات أكثر، أمّا آخرين فيبحثون عن القبول المجتمعي وترويج الذات. أمّا من يميل لمشاهدة هذه الفيديوات فهو كحال باقي مستعملي منصّات التواصل، يكون لسلوكيات للتهرّب من الحياة الواقعية والحصول على متعة وقتية بسرعة.