"القدر موكل بالمنطق " : كيف تُصاغ المصائر من اللغة !! ....
هل يمكن أن تتحول الكلمات التي ننطق بها إلى أفعال لا شعورية تُعيد تشكيل واقعنا؟
تشير الأبحاث الحديثة في علم النفس المعرفي والاجتماعي إلى أن اللغة المنطوقة تلعب دورًا جوهريًا في تشكيل الإدراك، وتوجيه الانتباه، وإعادة تنظيم البنية المعرفية للفرد. فالخطاب الداخلي والخارجي ليسا مجرد وسيلتين للتعبير عن المحتوى العقلي، بل يمثلان آليتين تنظيميتين تؤثران على السلوك والانفعالات وحتى النتائج المستقبلية. من هذا المنطلق، يتقاطع التراث الثقافي مع العلم الحديث في فرضية مثيرة: أن الكلمات المنطوقة قد تحمل وظيفة سببية تتجاوز التعبير إلى التأثير، كما تلمّح إلى ذلك المقولة الشائعة في التراث العربي "القدر موكّل بالمنطق"، أي أن ما ننطقه من كلمات قد يتحوّل إلى واقع، كما لو أن الكلمة قادرة على استدعاء القدر أو دفعه في اتجاه معيّن. هذه الفكرة التي قد تبدو في ظاهرها خرافية أو شاعرية، تجد جذورها في أسس علم النفس الحديث، حيث تُعَدّ اللغة إحدى أقوى الأدوات النفسية والاجتماعية التي تسهم في توجيه السلوك وبناء الهوية وتشكيل المصير.
وفقًا لنظرية النبوءة المحققة لذاتها (Self-Fulfilling Prophecy) التي صاغها روبرت ميرتون، فإن توقع الإنسان لأمرٍ ما – سواء كان نجاحًا أو فشلًا – يدفعه إلى سلوكيات لا شعورية تؤدي لتحقيق ذلك التوقع. وهذا ينسحب على الكلمات التي نقولها عن أنفسنا يوميًا: "لن أنجح"، "هذا قدري"، "الحياة ضدي"، كلها ليست مجرد تعبيرات، بل أوامر داخلية موجهة إلى العقل اللاواعي الذي يتعامل معها على أنها تعليمات قابلة للتنفيذ. فيستجيب لها الجسم، وتُعاد صياغة العلاقات والقرارات والتصرفات بما يتناسب مع مضمونها، لتتحول من كلام إلى واقع ملموس.
هذا الأثر لا يحدث على مستوى الأفراد فقط، بل يمتد إلى المستوى الجماعي. فكما يشرح جورج لاكوف في نظرية الإطار اللغوي (Linguistic Framing)، فإن الطريقة التي يُصاغ بها الخطاب العام في مجتمع ما تساهم في تشكيل معتقداته وسلوكياته السياسية والاجتماعية. حين تتكرر عبارات مثل: "نحن لا نصلح"، أو "الفرص لا تُخلق لنا"، فإنها تزرع شعورًا جمعيًا بالعجز والانكماش، وتؤطر المستقبل الجماعي في قوالب محدودة مسبقًا.
من جهة أخرى، تشير أبحاث علم النفس العصبي إلى أن اللغة لا تؤثر فقط على الفكر، بل تُعيد تشكيل بنية الدماغ نفسه. وفقًا للدكتورة ليزا فيلدمان باريت ، فإن الكلمات التي نستخدمها لتنظيم مشاعرنا اليومية تساهم في بناء التجربة العاطفية من جديد، لأن الدماغ يعتمد على اللغة لإضفاء المعنى على الأحاسيس الجسدية، وبالتالي، يمكن للكلمة أن تخفف أو تفاقم تجربة نفسية بالكامل بحسب صياغتها وتكرارها.
أما في المجال التطبيقي، فقد قدمت البرمجة اللغوية العصبية (NLP) تصورًا عمليًا لكيفية استخدام الكلام لإعادة تشكيل الإدراك والسلوك، معتبرة أن تغيير الجمل التي نستخدمها مع أنفسنا (Self-Talk) يؤدي إلى تحولات كبيرة في الأداء والمرونة النفسية. وقد أظهرت أبحاث في مجال الأداء الرياضي والنفسي أن من يستخدم حديثًا داخليًا إيجابيًا، ترتفع مستويات تركيزه وإنجازه مقارنة بمن يغرق في النقد أو جلد الذات (Van Raalte et al., 2000).
وعلى الرغم من الجدل العلمي حول بعض التجارب الرمزية مثل تجربة "إيموتو" على جزيئات الماء التي تأثرت بالكلمات، فإنها تبقى استعارة بليغة لقوة الكلمة وتأثيرها حتى على المادة، فكيف لا تؤثر على النفس البشرية؟
المُحصّلة التي تجمع بين كل هذه الأطر النفسية والعصبية والاجتماعية، هي أن الكلمة المنطوقة تشكل قوة بانية أو مدمرة . نحن لا ننطق فقط بما نؤمن به، بل نبدأ تدريجيًا في الإيمان بما ننطقه . والقدر الذي نعتقد أنه مفروض علينا، قد يكون في أحيان كثيرة، مجرّد استجابة لتصريحات لفظية تكررت بما يكفي لتتحول إلى واقع.
التعليقات