تشير العديد من الدراسات والنظريات النفسية إلى أن الحب، بوصفه تجربة إنسانية معقدة، قد لا يكون في جوهره مجرد استجابة عاطفية تلقائية تجاه شخص آخر، بل هو غالبًا تعبير غير واعٍ عن حاجات نفسية داخلية لم تُشبَع في مراحل مبكرة من الحياة. فوفقًا لنظرية التعلق (Attachment Theory) التي طورها جون بولبي (John Bowlby)، فإن نمط العلاقة التي نشكلها مع مقدمي الرعاية في الطفولة يؤثر بشكل مباشر على الطريقة التي نُنشئ بها علاقاتنا العاطفية لاحقًا. فالأشخاص الذين نشأوا في بيئة غير مستقرة عاطفيًا، أو عانوا من إهمال أو رفض، غالبًا ما يطورون نمط تعلق غير آمن (anxious أو avoidant)، يجعلهم يميلون إلى التعلق الشديد، أو تجنب القرب العاطفي، في علاقاتهم العاطفية كبالغين.
في هذا السياق، يصبح الحب في كثير من الأحيان محاولة غير واعية لترميم الذات، أو لإيجاد تعويض نفسي عما فُقِد في مراحل النمو. فالفرد قد ينجذب إلى شريك معين لا لأنه الأنسب له عقلانيًا أو عاطفيًا، بل لأنه يُحفّز لديه شعورًا مألوفًا ارتبط بشخصية أبوية أو أمومية سابقة، حتى وإن كانت هذه الشخصية مصدرًا للألم أو الاضطراب. ونتيجة لذلك، يقع الكثير من الأشخاص في علاقات تُعيد إنتاج أنماط نفسية مألوفة أكثر من كونها تلبي احتياجات واقعية في الحاضر.
هذا النمط من الحب، الذي يُطلق عليه أحيانًا "الحب الإسقاطي" (Projective Love)، يُبنى على إسقاط الفرد لمثله أو مخاوفه أو جراحه على الآخر، فيُحب صورة ذهنية صنعها بنفسه، لا الشخص كما هو في واقعه. وهنا يبرز تساؤل جوهري : هل الحب الذي نعيشه حب واعٍ وناضج، أم أنه مجرد استجابة نفسية لسد ثغرات داخلية لم تتم معالجتها ؟
الحب الناضج، بحسب إريك فروم في كتابه "فن الحب" (The Art of Loving)، لا يقوم على الحاجة بل على القدرة. أي أنه لا ينبع من شعور بالنقص أو من فراغ عاطفي، بل من اكتمال داخلي يسمح للفرد بأن يُعطي ويستقبل دون أن يُفقد ذاته أو يستنزف الآخر. ومع ذلك، فإن الأغلبية، خاصة ممن لم يخوضوا تجربة علاج نفسي أو لم يعوا دينامياتهم الداخلية، قد يعيشون الحب كنوع من التعلق العاطفي المُقنّع بالحاجة، حيث لا يتم اختيار الشريك بقدر ما يتم انجذاب لا واعٍ إلى "أدوار نفسية" يمثّلها ذلك الشريك.
من هنا، يصبح فهم الحب من منظور نفسي ضرورة لفهم الذات قبل فهم الآخر، ولفحص النوايا الحقيقية خلف مشاعر تبدو في ظاهرها عاطفية لكنها في باطنها قد تكون محاولة للهروب من الوحدة، أو لبناء هوية مفقودة، أو لتعويض نقص في التقدير الذاتي. وعليه، فإن إعادة طرح التساؤل" هل هو حب أم إسقاط نفسي !؟ " ، هو أمر ضروري لمراجعة بُنية علاقاتنا العاطفية، وتحرير الحب من كونه وسيلة لمعالجة جروح قديمة، إلى كونه فعلًا نابعًا من وعي، اختيار، ونضج نفسي.
التعليقات