مع كثرة تحديات الحياة يقدم لنا هذا العمل تحدي من نوع خاص ومؤسف حيث تضطر عائلة فلسطينية أن تنقسم فيما بينها، بسبب جدار الفصل العنصري، فيصبح الأب يعيش في الجانب الفلسطيني، والأم والأطفال في الجانب الآخر، يرون بعضهم البعض من خلال الأسطح، لأن الفاصل بينهما هو ٢٠٠ متر فقط! من أكثر الأفلام التي تركت تأثيرًا علي في الفترة الأخيرة، وقد جعلتني أتساءل عن صعوبة وضع العائلات التي يضطر الأب فيها لعدم قيامه بدوره وكيف يمكن تعويضه، فالأمر شائع جدًا ولأسباب كثيرة لعل أهمها هي البحث عن لقمة العيش، وتوفير حياة أفضل للأسرة، فيضطر الأب للسفر للخارج من أجل تحصيل ذلك. عن نفسي رأيت العديد من هذه النماذج في محيطي، فالأب يظل مسافرًا طوال العام، ولا يعود سوى في إجازة سنوية واحدة معدودة الأيام، تاركًا بحمل التربية والرعاية والعاطفة كله على الأم.
فيلم 200 meters: كيف يمكن تعويض غياب دور الأب إذا كان غيابه اضطراريًا؟
بالطبع قصة الفيلم تحاكي الواقع الفلسطيني وهو واقع مؤلم بكل المقاييس ولا يمكن مقارنته بغيره ولن يشعر احد بوضعهم إلا انفسهم ومواقف كهذه ليست فقط الضغوط الوحيدة التي يواجهونها، كان الله في عونهم، وفرج كربهم.
اما بالنسبة لغياب دور الأب بسبب العمل فهو صعب بالنسبة لكل الاطراف الاب والام والاطفال على السواء، لكن هذا يكون اختياريًا وان كان لظروف الحياة ومتطلبات الأسرة دور رئيسي، لكن إن لم يكن هذا الوضع مجزي ماديًا ولو بنسبة بسيطة فلن يستمر، لكن يبقى الموقف النفسي والمعنوى للأطفال الذين يفتقدون توجيه وحنان الاب، والأم التي تجد نفسها مضطرة لتأدية الدورين، وفي رأيي فدور أحد الوالدين مهما كان لا يمكن تعويضه.
لكن إن لم يكن هذا الوضع مجزي ماديًا ولو بنسبة بسيطة فلن يستمر
في رأيي حتى لو كان الوضع المادي مجزي (في الأوضاع الطبيعية) فهناك نقطة هامة وهي الأولويات، يجب أن يكون هناك حد معين يدرك عنده الأب أن ما يحتاجه الأبناء في الحقيقة هو تواجده معهم وتوفير احتياجاتهم المعنوية. بعض من معارفي ليس لديهم أي علاقة حقيقية تجمعهم بالوالد سوى أنه يرسل لهم أموال فقط، لكنهم لا يعتبرونه جزء أساسي من حياتهم.
بالوالد سوى أنه يرسل لهم أموال فقط، لكنهم لا يعتبرونه جزء أساسي من حياتهم.
هذا واقع للأسف، بل أيضا يستغربون حين يحاول أن يمارس الأب دوره فهم اعتادوا غيابه أكثر من وجوده وعلى هذا الأساس قد يواجهون صعوبة في تقبل تدخله في حياتهم وإبداء الرأي فيها، كانت لدي صديقة تقولي لي أنها اعتادت منذ صغرها أن تفعل كل شيء بمفردها خارج المنزل بالأخص وأن والدتها لم تلاحق على كل متطلباتها هي واخوتها جميعا فإن ما كبرت وعاد والدها للاستقرار معهم وكلما حاول والدها مساعدتها في شيء ترفض ذلك بكل بساطة وتنزعج من فكرة أنه يراها غير قادرة على فعل شيء بمفردها في حين أنها قضت حياتها تفعل ذلك بدونه!
وكلما حاول والدها مساعدتها في شيء ترفض ذلك بكل بساطة وتنزعج من فكرة أنه يراها غير قادرة على فعل شيء بمفردها في حين أنها قضت حياتها تفعل ذلك بدونه
نعم أنا عايشت مواقف شبيهة مع إحدى صديقاتي، وكانت تقول أنها غير معتادة نهائيًا على تواجد والدها في المنزل، وحتى ليس له أي دور سوى في بعض القرارات المصيرية فقط (من باب العلم بالشيء فقط)، ولكن أحيانًا أتساءل هل يمكن لهذا الأب أن يعوض أبنائه لاحقًا عن هذا الغياب؟
إذا أنت ترين طالما كان الغياب اختيارا لظروف العمل فعلى الأب بالتخلي عنها لأن دوره الأساسي أهم وأبقى؟ إذا ماذا لو كان غيابه هو أمر واقع لقدر الله بسبب الوفاة؟ فهل توجد طريقة يمكن أن تعوض بها الأم هذا الجانب؟
طبيعي ان يكون الأولوية لوجود الاب مع الأسرة لتخفيف الضغوط (إن كان أبا صالحا بالفعل)، لكن غيابه لأي سبب اضطراري هو امر خارج عن إرادة الجميع خاصة الوفاة، فحينها سيكون غيابه واقعًا لا مفر منه، لا أحد سيتوقع زيارته في الاجازات ولا حضور مناسبات، كما ان مصاريف ومسؤليات الأسرة ستتحملها الام لوحدها، وتأقلم حياتها وحياة أولادها على غياب الأب النهائي.
وكثير من الامهات عشن تلك التجربة كل حسب مقدرتها، فمنهن من تعتمد على عملها ومنهن من تستعين بالعائلة ومنهن من تتزوج ثانية.
فمنهن من تعتمد على عملها ومنهن من تستعين بالعائلة ومنهن من تتزوج ثانية.
إذا كانت الثلاثة خيارات هي لحل مشكلة الجانب المادي فقط فلا يهم أي خيار ستتخذه الأم هنا، ولكن الأهم هو الدور المعنوي الذي يقدمه الأب وسيفتقده الأبناء في هذه الحالة والمتمثل في تقديم الدعم والحب والإرشاد والنصح والثقة والأمان، هذه الأشياء مسؤوليتها أكبر وأعقد من توفير المال، فما برأيك هو الأفضل من أجل الأطفال من بين الثلاث خيارات هنا؟
الام بطبيعة الحال تحب اطفالها وتقدم الدعم المعنوي لهم، وتزداد عواطفها وقوتها مع زيادة المسئولية وتلك غريزة الامومة، وغياب الاب لسبب الوفاة سيتفهمه الاطفال مع الوقت وسيدعمون امهم في المقابل، اما الجانب المادي فإن نقصه قد يؤدي ايضا لغياب دعمها المعنوي للسعي نحو توفير متطلبات الأسرة.
فما برأيك هو الأفضل من أجل الأطفال من بين الثلاث خيارات هنا؟
من وجهة نظري الخاصة فإن دعم العاذلة سواء عائلتها او عائلة الزوج المتوفي قد تخفف كثيرًا سواء من الجانب المادي او المعنوي.
هنا تقع المسؤولية كلها على عاتق الأم وحتى تتمكن من القيام بدور الأب والأم بأفضل شكل ممكن من الضروري أن توفر لهم الاستقرار والحماية والأمان، وذلك بتوفير البيئة الاجتماعية والتعليمية التي تدعمهم وتشجعهم، والاهتمام باحتياجاتهم العاطفية والجسدية للنمو بشكل سليم، وهذا بالتأكيد سيمنحهم الثقة في أنفسهم وقدراتهم.
وربما ليس الأم فقط، ولكن من المفترض تعزيز دور أفراد العائلة بشكل أكثر فعالية، فهناك الجد والعم والخال هم أيضا لديهم واجب تجاه هؤلاء الأطفال ولا أعني فقط الواجب المادي ولكن الرعاية نفسها واجبة عليهم، بتقديم الدعم النفسي والعاطفي والمساعدة على حل مشكلاتهم وحسن توجيههم وإرشادهم، ولكن للأسف ما نراه هو مجرد تدخل وتحكم في نظام الحياة ليس أكثر، مجرد أوامر يصدرونها ويريدون تنفيذها فقط، ونجد أن الابن الأكبر ما يتم تحميله وقتها بالعبء والمسؤولية الحقيقية فيصبح هو الأب وفي مكانة رب الأسرة.
صحيح ولكن الأم هي أكثر شخص ينفرد بالطفل ويهتم بجميع شؤونه، وعن تجربة أرى دائماً أن بقية أفراد العائلة في وقتنا الحالي لا يقومون بأدوارهم التي من المفترض أن يقوموا بها على أكمل وجه فجميعها أدوار هامشية، والأم هي الشخص الوحيد الذي يتحمل كل شيء ويتضرر كثيراً بغياب الأب، وللأسف مهما كبر الأبن لن يستطيع تعويض دور والده.
في حالة الفيلم ( أو فيما يخص فلسطين والدول التي تتشابه فيها الأوضاع) فالأمر هنا إجباري، بمعنى أن الأسرة سيكون الأهم بالنسبة لها أن يكون جميع الأفراد آمنين حتى يصلوا إلى حل يضمن جمع شملهم، وللأسف الوضع هنا مرهق نفسيًا بالنسبة لكل الأطراف. وفي هذه الحالة تعويض الغياب جزء منه على عاتق الأم، هي في حاجة للتحدث دائمًا عن مجهودات الأب وخلق مساحة له حاضرة في المنزل على أن يكون هناك دور أيضًا من الأعمام أو الأخوال في حال تواجدهم، هذا سيخلق بيئة سوية بنسبة كبيرة لتربية الأبناء، وفي نفس الوقت يشعر الأب بنوع من الاطمئنان على أبنائه ويكون التركيز على توفير ما يحتاجونه ومحاولة إيجاد فرصة لجمع شملهم مرة أخرى، أتفهم جدًا صعوبة الأمر ولكن للأسف الحياة يجب أن تستمر مهما بلغت قسوة الموقف الحاضر.
هي في حاجة للتحدث دائمًا عن مجهودات الأب وخلق مساحة له حاضرة في المنزل.
هذه نقطة هامة جدا حتى لا يعتاد الأبناء على غياب دور الأب في هذه الحالة، فيجب على الأم أن تحرص دائما على تسليط الضوء على ما يقوم به الأب، بل وتخصص له جانب في القرارات كذلك، لأن ما نراه في هذه الحالة أن الطفل يعتاد على الأم كونها السلطة الوحيدة في حياته، فعندما يريد أي شيء يذهب لها هي فقط، وعلى هذا الأساس الأم كذلك تنفرد بنفسها في إصدار القرارات والزوج لا يعلم عنها شيئا، وهذا خطأ جدا، فحتى ولو ابتعد الأب وحتى وإن تتشاور الأم مع الأب لأي سبب كان فعليها أن توضح للطفل أن رأيها على طلبه هو قرار مشترك بينها وبين والده.
فيلم مؤثر فعلاً، كان الله في عونهم على مثل هذه المواقف وغيرها فالتحديات التي تقف في طريقهم لاتحصى ولايستطيع أحد منا تحملها..
غياب دور الأب سوف يظهر في شخصية الأبناء مهما تم التعويض وتحري الاساليب والاستراتيجيات البديلة، فإن كان هذا الغياب بسبب الحروب وغيرها من أمر جلل لايمكن تجاوزه، فسوف يكون تحدياً كبيراً..
استغرب أن هناك بعض الآباء يتنحون عن دورهم بدون ظرف وإنما اختيار شخصي بكل أنانية.. فرغم أنه يعيش معهم في منزل واحد إلا أن جميع تعاملاتهم تكون عن طريق الأم ويكون هو مجرد ممول لهذه العائلة.
فرغم أنه يعيش معهم في منزل واحد إلا أن جميع تعاملاتهم تكون عن طريق الأم ويكون هو مجرد ممول لهذه العائلة.
أعتقد أن من ضمن الأسباب الشائعة والهامة وراء هذا الأمر أن الأب نفسه كان ينقصه دور الأب عندما كان صغيرا، فكبر وهو لا يعرف كيف يؤديه، لأنه ببساطة فاقد الشيء لا يعطيه طالما أنه لم يتعلمه ولم يتجاوزه، للأسف هم مجرد آباء يحتاجون لآباء أيضا، ودائرة لن تُكسر سوى بالوعي والتغيير.
التعليقات