يقول نيتشه: "يبدأ الإيمان بالحق بالشك في كل ما كان يُعتقد حتى الآن أنه صحيح". يعتبره الكثيرون من النقاد السينمائيين والمشاهدين على أنه أحد أفضل الأفلام التي انتجتها هوليوود على مر التاريخ، رغم أنه اُنتج منذ زمن سحيق يعود للخمسينيات، ويعتبر من الأعمال الخالدة في السينما العالمية والأمريكية على وجه الخصوص!
فيلم 12 Angry Men هو من إخراج المخرج الأمريكي الشهير سيدني لوميت، تم انتاجه في عام 1957، من تأليف ريجنالد روز، وتدور أحداث هذا الفيلم حول ١٢ رجلاً يشكّلون هيئة المحلّفين في محكمة أمريكية، يتناقشون حول حكم قضائي بحق مراهق متهم بقتل والده بعد مشاجرة قامت بينهما، ويقتضي الحال أنه إذا أقرّت هيئة المحلّفين هذه بأن المتهم هو القاتل فسيعدم بواسطة الكرسي الكهربائي، أي أنهم يتناقشون حول مصير فتى في مقتبل عمره واضعين حياته محط شك وتأرجح ما بين مذنب وغير مذنب، ورغم الأدلة الدامغة المحيطة بالجريمة، إلا أن الكلمة التي قالها القاضي في بداية الفيلم للهيئة "إذا كان هناك شك مبرّر، عندها يجب أن تقدّموا قراراً بأن المتهم غير مذنب"، لم يتنبّه لها الكثيرون في الحقيقة ما عدا شخصٍ واحد، والذي سيقف فيما بعد وحيداً أمام الباقين لدحض هذه الأدلة ببراعة وحذق حوّل مسار القضية بالكامل.
يعرض الفيلم قضية مهمة جداً، وهي قضية العقلية الجمعية التي تطغى على التفكير المفرد، حتى ولو كان على صواب فإن آراء الأغلبية هي من توضع محل اهتمام وتأييد، دون التطلّع إلى وجه الصواب من عدمه، وقد تفرّد سيدني لوميت في وضع كل شخصية من الاثني عشر في نمط بشري وتفكيري مختلف عن باقي الشخصيات، فقد صوّر لنا الشخصية الانتهازية، والشخصية الخائفة، والارستقراطية، والواثقة، والمترددة، والهامشية في مدة لا تزيد عن 92 دقيقة كاملة فقط، مع براعة في توظيف الكادرات وزوايا التصوير، واللقطة الواحدة التي ساعدت في ظهور انفعالات كل شخصية بدقة متناهية، والتي يطلق عليها صنّاع السينما تقنية "one shot" بطريقة تخدم الجو المشحون الذي كانت تصارع الشخوص في خضمّه في الغرفة الحارّة المغلقة.
في كل الحوارات التي دارت ما بين الشخصيات الاثني عشرة كان كل واحد منهم يأخذ القضية من زاويته وظروفه، وهذا ما يسمى في علم النفس "بالإسقاط"، أن يُسقط الشخص الأحداث السائرة حوله على ما يعانيه أو يعيشه في حياته الواقعيّة ويتأثر به، فيؤثر على قراراته وانطباعاته تجاه الأشياء في العموم، فمثلاً كان هناك من هيئة المحلّفين شخصية العجوز الذي أخذ يتحدث عن الشاهد الذي أدّعى أنه قد سمع الواقعة التي دارت في الطابق العلوي لمنزله، ورأى الفتى يهرب عبر السلالم المفضية إلى الخارج، فيقول العجوز واصفاً ما رآه من هيئة الشاهد وكأنما يصف نفسه من الداخل: "لقد نظرت إليه فترة طويلة جداً.. سُترته كانت مُمزقة تحت الكَتِف، هل لاحظتم ذلك؟ أعني أن تأتي إلى المحكمة بتِلك الهيئة!
لقد كان رجلاً عجوزاً جداً في سترةٍ مقطّعة، وقد سار ببطئ شديد إلى المنصة.
كان يسحب ساقهُ اليسرى، محاولاً إخفاءها لأنه كان خجلاً.. أعتقد أنني أفهم هذا الرجل أفضل من أي واحد هنا.. إنه رجل عجوز، خائف، هادئ، تافه، بسيط تماماً، كان عبارة عن لا شيء طوال حياته لم يسبق له أن قُدِر أو ذُكِر اسمهُ في الصحُف، لا أحد يَعرفه، لا أحد يقتبس منه، لا أحد يطلب منه النصيحة بعد خمسة وسبعين عاماً..
أيُها السادة.. إنه لشيءٌ مُحزن جداً أن تكون نَكِرَة."
وشخصية المحلّف رقم 3 الذي جسّده الممثل لي جي كوب، والذي ابدع في انفعالاته تجاه الأحداث طيلة الفيلم اختتاماً باللقطة التراجيدية التي في النهاية، فقد اسقط صراعه النفسي مع ابنه في الحقيقة على هذه القضية، مؤمناً بأن الفتيان العاصين لذويهم يستحقون العقاب حتى ولو يرتكبوا جرماً في الواقع، فقد كان يرى المتهم يتجسد في صورة ولده العاصي والعاق به، والذي لم يره طيلة سنوات عديدة، لذا أصر أن يصوّت باستحقاق الفتى المذنب للعقاب دون اقتناع منه بالأدلة حتى، وهذا ما جعل الفيلم يأخذ مسارات متعددة ما بين صعود في رتم الأحداث وبين هدوء وعقلانية الاثباتات الجديدة التي قدمتها الشخصيات الأخرى والتي من شأنها دحض التهمة عن الفتى.
وفي المحصلة كانت هناك الشخصية المحورية التي اشعلت الأحداث والتي أدى دورها الممثل الرائع هنري فوندا، بشكّه في جميع الأدلة المقدمة، وعقلانيّته في الطرح واضعاً فرضيات للجريمة وطريقة حصولها بناءً على أقوال الشهود والأدلة المادّية المقدمة من المحكمة.
نرى في نهاية العمل الفكرة الرئيسة التي حملها طيلة تلك الدقائق القصيرة، بأن الأحكام المسبقة على الأشخاص بناءً على أقوال الآخرين أو لمجرد صراعات نفسية يخوضها المرء فتجعله يرى الآخرين بعين طباعه وطريقة تفكيره ما هي إلا عمل استباقي غير مبني على أمور واقعية، وأن أهمية الروح الانسانية تستحق الوقوف عندها بتريّث ولو قليلاً. عمل سنيمائي كهذا رغم السنوات التي مرّت على عرضه، ورغم مدته القصيرة التي لا تتجاوز الساعة والنصف، إلا أنه قدم لنا عرضاً مسرحياً متقن الأحداث والعرض، فقد استطاع لوميت تحويل تلك الغرفة الصغيرة التي تضم ١٢ رجلاً غاضباً إلى مسرحية معقّدة رغم بساطة الحبكة التي في البداية، والتي توهم المشاهد بأنه لا حبكة من الأساس، لكن سرعان ما تتطور الشخصيات وتتصاعد التحليلات حتى تصل إلى ذروتها النهائية، ويبقى السؤال المطروح الذي تركه المخرج للمشاهدين بناءً على ما تقدّم من أدلة وأقوال شهود وتحليلات عميقة تحتمل الصواب والخطأ معاً.. هل الفتى مذنب أم غير مذنب؟
التعليقات