المنبوذون The Intouchables (2011)

ترنيمة إنسانية في زمن وحشي..

بقلم "أماني ربيع"

في لحظة ما يدخل شخص إلى حياتك لتكتشف معه أن هناك جانباً من الدنيا أنت لا تعرف عنه أي شيء، وتكتشف طريقة أخرى لتعيش الحياة بدلا من أن تعيشك، والأجمل أن تحب ذلك، وأن يتأثر ذلك الشخص بحياتك أنت الآخر، صانعين بهذا الامتزاج خبرة حياة لا تنسى، ربما تتغيران على إثرها إلى الأبد.

أعمالا كثيرة أبرزت تيمة كوميديا التناقضات وما ينتج عنها من مفارقات طريفة يصنعها تزواج حياتين مختلفتين لشخصين مختلفين تمام الاختلاف.

رأينا ذلك في "سيدتي الجميلة" لبرنارد شو وكيف دخلت الفتاة الفقيرة "إليزا" عالم الدكتور الأرستقراطي المنظم لتقلبه رأسا على عقب، وتكررت التيمة على المستوى العربي في فيلم "الأيدي الناعمة" عن قصة توفيق الحكيم، بإبراز التناقض بين الأرستقراطي العاطل ودكتور اللغة الفقير بينما جاءت تلك التيمة في أبسط صورة وأخفها ظلا مع "بكيزة وزغلول".

دوما هو الأرستقراطي أو النبيل الغني المتعجرف صاحب الحياة الباردة المعقمة التي يدخلها ذلك الإعصار الجديد الملوث بحب الحياة وطينتها البسيطة العفوية ، وتلك الحيوية التي تدخل على حياة باردة عجوز فتعلمها معنى الحياة.

الفيلم كذلك يلعب على ذات الوتر، شخصان يرى كل منهما العالم بنظرة مختلفة، واحد يعيش بين نغمات الموسيقى الكلاسيكية واللوحات الفنية النادرة بينما يعيش الآخر في الشارع.

الأول لديه كل مقومات الحياة لكنه يفتقد الحياة، الآخر ليس لديه أيا من مقومات الحياة لكنه يملك الحياة نفسها، مسافة كبيرة تفصلهما، وفي ثنايا تلك المسافة تنشأ قصة الفيلم.

لماذا تحول فيلم "The Intouchables" ويعني "المنبوذون" إلى ظاهرة رغم الاسم الغير مبشر، الذي قد تخاله تراجيديا أشبه بـ "بؤساء" فيكتور هوجو، ربما لأنه فيلما حقيقيا عن واقعنا، وتلك التفاصيل التي تعطي للحياة معنى، إنها ترنيمة إنسانية في زمن وحشي مادي تقشف بفعل الجري وراء المادة وتقرح جلده واهترءت مشاعره حتى أصبح يجري وراء أقرب شيء يدنيه من معنى الحياة الحقيقية، كالأرض العطشى لدفقات المياه الرحيمة.

ولعل أكبر ميزات الفيلم أنه خالي من "الكليشيهات" فلن تجد فيه حكما من نوع "الغنى غنى النفس" أو "المال ليس كل شيء"، لكنه يجعلك ترى بنفسك أن السعادة تأتي لمن يريدها حقا.

فيلم " The Intouchables " كوميدي فرنسي بسيط، مثل ضوء النهار يتسرب إلى وجهك عبر نوافذ غرفتك في صباح مشرق، لعب بطولته باقتدار" فرانسوا كلوزيه" و"عمر سي".

يُشرح الفيلم مشكلة الطبقية في فرنسا وهي مشكلة أزلية في كل مجتمعاتنا ، لكنه يتحدث بشكل خاص عن تلك الطبقية التي لا تنشأ عن فقر وغنى أو تعليم عالى وآخر حقير، أو ثقافة راقية وأخرى منحطة فحسب، بل هى تجمع كل ذلك، من خلال رصد النظرة السلبية تجاه المهاجرين الأفارقة والعرب الذين يسكنون الأحياء الفقيرة ويجمعون بين كل الأشكال السابقة من فقر وعوز.

الفيلم يحاول ببساطة أن يضعك أمام تلك الصورة لترى زيف العادات التي تفرق بين البشر وبعضهم على أساس لون أو تعليم أو وضع اجتماعي، كرسالة لتغيير النظرة الاستعلائية الأوروبية تجاه المهاجرين، كما يفند الأفكار التقليدية الرائجة عن المهاجرين السود والعرب المُستغلة في الخطاب السياسي الفرنسي والأوروبي بوجه عام.

يجسد "فرانسوا كلوزيه" شخصية "فيليب" أرستقراطي مشلول تعرض لحادث مروع أدى إلى إعاقته بشكل دائم من الرقبة وحتى القدمين، وتعرض لصدمة أخرى بعد 3 سنوات، هي وفاة زوجته بياتريس.

تدخل السعادة عالم "فيليب" بفضل خادمه الأسمر "إدريس"، خريج السجون الذي يعيش في حي ينطق بكل أشكال التهميش والقذارة، وجسد الدور ببراعة "عمر سي" الذي لعب الشخصية انطلاقا من روح الدعابة والفكاهة والإنسانية المتجذرة في أعماق المهاجر الأفريقي البائس المجسد لمقولتيّ "شر البلية ما يضحك" و"الفكاهة أدب اليأس".

ما نعرفه عن "إدريس" أنه متهم بالسرقة خرج لتوه من السجن بإطلاق سراح مشروط، يتقدم بطلب وظيفة لرعاية "فيليب" وهو أكيد أنه سيتم رفضه، ومن ثم يحصل على إعانة البطالة، يقابل "فيليب" المتقدمين للوظيفة واحداً تلة الآخر، فندرك أنه لا يبحث عن مساعد أو خادم، بل يبحث عن صديق يبهجه، ونرى الدهشة على وجه "إدريس" عندما يفاجأ بقبوله في الوظيفة.

جوهر الفيلم يتبلور في تلك العبارة " رفقة "إدريس" لن تغير واقعه سيبقى دائما المليونير الفرنسي المشلول المحاط بالموظفين المهتمين برواتبهم ومكانتهم الإجتماعية، لكنه اذا استطاع أن يلتقط شيء من إدريس سيصبح أسعد، سيصبح مشلول سعيد."

تحول الفيلم، الذي أخرجه إريك توليدانو وأوليفيه نقاش، بعد عرضه بوقت قصير في عام 2011 إلى تحفة فنية كوميدية من الطراز النادر، ليصبح أكثر الأفلام رواجا في فرنسا منذ عام 1945 بعد كل من فيلمي "سوندريو" عام 1950 ، و"نفق نهركواي" عام 1957.

الفيلم مقتبس عن قصة حقيقية تناولها "فيليب بوزو دي بورجو" في كتابه "النفس الثاني" الذي نشر عام 2001، والقصة تحكي عن ثري أرستقراطي معاق يكسر حياته الرتيبة وعزلته الاجتماعية في قصره الفاخر بفضل إدريس الشاب الأسود الذي ينحدر من عائلة فرنسية أفريقية الأصل ومتواضعة الحال.

اتخذ الفيلم موقفا فكريا يتعدى حدود التفسير الطبقي للصراعات الاجتماعية، الأمر الذي لم يعجب الصحافة اليسارية التي رأت في الفيلم بعدا مثاليا يخفي المعضلة ذات الجذور الأيديولوجية العميقة، خلافا للصحافة اليمينية لم يعجبها الشاب الأسود الهمجي غير المتحضر وهو يعود حتى بعد أن انتهت فترة عقده لدى الثري المعاق، وفشل كل الذين خلفوه من البيض في انتزاع رضاه.

التحفظ الأيديولوجي على الرسالة الرئيسة للفيلم جعلت صحفا أمريكية مثل "نيويورك تايمز" و"فارايتي" تهاجم الفيلم واصفة إياه بـ "العنصرية".

وبحسب مجلة "فارايتي" يمرر الفيلم الفكرة التقليدية عن العبد بمفهومه القديم الذي انتهى في السينما الأمريكية، ووصفت الممثل عمر سي "بقرد عرض سيرك"، وختمت بأن "الفيلم لا يُعجب ولا يُضحك إلا الذين لا يفكرون".

للمزيد من المراجعات: تابعنا على مدونة أكتب مراجعة (www.oktobmurajaah.blogspot.com)، أو انضم الى مدونتا كمحرر وابدأ في كتابة مراجعاتك...