(رابطُ المقال على مدوّنتي:
عندما كنتُ أجلس لمشاهدة برنامج وثائقي على التلفاز، في إحدى الأوقات النادرة التي كنتُ أُخصّصُها لمشاهدة شيء غير أفلام الكرتون، على قناة ناشيونال جيوغرافيك الرائعة، أو عندما أجلسُ في المكتبة بضع ساعات في تصفّح الكتب التي قضى والدي عمره بجمعها، أو أشاهد على الإنترنت صوراً مذهلة للحيوانات والطبيعة والفضاء والنجوم، كان دائماً يراودني شعورٌ واحد: وهو الشعور بفضول لا يمكنُ كبحه لمحاولة معرفة كلّ شيء يمكنني معرفته عن العالم. ومع أني كنتُ أتعب بسرعة من القراءة، بحيثُ أغلق الكتاب بعد قلب ما لا يتعدّى خمس أو ست ورقات، ومع أني لم أكُن أشاهد ناشيونال جيوغرافيك سوى لساعة أو اثنين قبل أن أعود للّعب، إلا أن الأمر لم يقلقني يوماً: فقد كنتُ أعرف دائماً أني لا زلتُ طفلاً صغيراً، وأنا أمامي حياة كاملة لأكتشفَ كلّ ما أرغبُ باكتشافه. يحزنني جداً قولُ هذا الآن، ولكني لم أكُن متشككاً بإمكانية إشباع ذلك الحلم قطّ كما أنا الآن.
مثل الكثير من النيردز أمثالي، كانت لديَّ الكثير من الميول العلمية المتنوّعة في صغري، وبالتالي فعند تجاوزي لمرحلة المدرسة لم يكُن من السهل عليَّ أبداً تحديدُ مساري الأكاديمي والمهني في الحياة. فعلياً، لم أكُن مهتماً بالعمل في أيّ وظيفة من الوظائف التي يقضي بها جلّ من أعرفهم حياتهم، بل كنتُ أتمنّى أن أعيش حياتي وأنا أعملُ في 10-15 وظيفة من الوظائف الخيالية التي كنتُ أراها على التلفاز، والتي لا يحظى بها سوى بشرٌ قليلون جداً في عالمنا الحقيقي الحزين. كنتُ أتمنى أن أحظى بالفرصة لأعمل في مرصد فلكي، ولأتجول في غابات الأمازون وأكتشف أنواعاً مذهلة من الحيوانات، ولأتوصّل للنظرية الفيزيائية الجديدة التي ستقهرُ نسبية آينشتاين، ولأن أكتبَ رواية عظيمة مثل الحرب والسلام، ولأن أقوم بآلاف الأشياء الرائعة الأخرى. على كلّ حال، كنتُ أعرف دوماً أني لن أستطيعَ القيام بكلّ هذا، لكن - على الأقل - كنتُ مطمئناً لأني سأشبعُ اهتمامي وشغفي الدؤوبين بكلّ هذه الأمور في يومٍ من الأيام، بطريقة أو بأخرى.
على أيّ حال، كنتُ لا زلتُ جاداً في شغفي (والحقّ يقال، لا زلتُ حتى اللحظة التي أكتبُ فيها هذه الكلمات) بكلّ ما سبقَ وأن ذكرته منذ سنواتٍ معدودة، عندما وجدتُ نفسي مضطراً - أيضاً - لحسم أمري واتخاذ "أهم" قرارٍ في حياتي، وهو اختيار تخصّصي الجامعيّ. فعلياً، كان هذا أكثر قرار مُحيّر اضطررتُ لأخذه، وذلك ليس بسبب كلّ الضغوط المادية والعملية التي ينطوي عليها فقط، وإنما أيضاً بسبب كثرة اهتماماتي ومجالات شغفي بدرجةٍ تجعلُ اختزالها في اختصاصٍ ضيّق واحد أمراً شبهَ مستحيل. مثل كلّ طالب في المدرسة الثانوية، إذا سألتني السؤال الشرير: "ماذا تنوي أن تدرس بعد تخرّجك؟"، كنتُ سأعطيكَ إجابة جديدة في كلّ أسبوع.
وقعَ آخرُ تغييرٍ أسبوعي في هذا القرار قبل سنة واحدة وسبعة شهور وبضعة أيام. كنتُ قد أصبحت طالباً مستجداً في الصحافة رسمياً منذ يومين، عندما سمعتُ عن وجود شواغر في كلية اللغات الأجنبية بالجامعة المجاورة لمنطقة سكني. قضيتُ ليلة واحدة وأنا أُفكّر، وتوصلتُ للقرار بوضوحٍ شديد: فمستقبلي لن يكون في الصحافة، بل في اللغات والأدب. استيقظتُ في اليوم التالي في السابعة صباحاً وتوجهتُ مباشرةً إلى الجامعة، وسجلتُ كطالبٍ في اللغة الإنكليزية وآدابها.
ولكن، لأكونَ صريحاً، لم أكن أنتوي في ذلك اليوم ولا في أيّ يومٍ قبله أن آخذ أمرَ دراستي الجامعية على محمل الجدّ. عندما سجَّلتُ كطالبٍ جامعي كنتُ بالفعل أعملُ بدوامٍ جزئي في كتابة المحتوى لعامٍ تقريباً، وكنتُ قد تلقيتُ منحاً شتى لزيارة دول أجنبية لمساهماتي في ويكيبيديا، وبالتالي فقد وجدتُ أن الجامعة لا يمكن أن تُقدِّمَ إضافة مهمة لمؤهّلاتي، خصوصاً وأني دخلتُ كلية "أدبية" قليلة الشأن والتي يفترضُ أن شهادتها ليست ذات "قيمة". وأما ما هو أهمّ من ذلك، فهو أن اختصاصي الجامعي لم يكُن ليُمثّل أي عائق أو عقبة تذكر لي لمتابعة شغفي في التعلّم والتوسّع بأي مجال أشاؤه: فمثلما شاهدتُ الوثائقيات وقرأتُ الكتب عن الحيوانات والفيزياء والفلك والعلوم، فلا شيء سيمنعني من متابعة القيام بذلك، أو هذا ما كنتُ أعتقده، لإيماني دائماً بأنَّ التعلم الذاتيّ هو أفضلُ طريقة للتعلّم.
كان ذلك قبل ما لا يزيدُ بكثير عن عامٍ ونصف. الآن، أوشكتُ على إنهاء عامي الدراسي الثاني في الأدب الإنكليزي، وبالتالي أكونُ قد أنهيتُ نصفَ مشواري الدراسي. أذكر الآن أني قبل سنة واحدةٍ من اليوم بالضبط، في ربيع عام 2017، كنتُ سعيداً جداً عندما ذهبتُ في زيارة لمتجر كتبٍ مع بعض أصدقائي ووجدتُ كتاباً أكاديمياً أجنبياً عن الجيولوجيا يباعُ بسعرٍ بخس جداً. كان كتاباً من النوع الثقيل، 400 صفحة مملوءة بآلاف المصطلحات العلمية الدقيقة عن الصخور والمعادن والبراكين، ومئات الصور والرسوم التوضيحية التي تجعلُكَ متحرّقاً للقراءة، وكان معروضاً للبيع ب5 دولارات فقط. اشتريته على الفور وعدتُ للمنزل وأنا كلّي شوقٌ لأصبحَ أخيراً خبيراً في الجيولوجيا، وهو علمٌ كان يثير شغفي منذ صغري، لكني لم آخذ الوقت والجهد قطّ لأتوسّع فيه أكثر. قرأتُ الكتاب بجدّ واهتمامٍ شديدين، وأنهيتُ منه حوالي 160 صفحة خلال العطلة الصيفية، قرأتُها بتركيز واستيعاب شديد.
ولكنّ ذلك كان منذ عام. بعد انتهاء العطلة الصيفية، بدأ فصلي الدراسي الجديد، وظلَّ الكتابُ جالساً بجانب سرير (حيثُ أهوى القراءة دوماً) وأنا مؤمنٌ في ذاتي وداخلي بأن سأعود لفتحه في أقرب وقت، لكنّ ذلك لم يحدُث قط. بمُجرّد بدء فصلي الدراسي، الذي تضمّن مادتين ثقيلتين عن الأدب البريطاني والأمريكي ومادة مُتقدّمة في علم اللسانيات، وجدتُ نفسي عاجزاً عن إيجاد أيّ وقت فراغٍ خارج أوقات الجامعة وحلّ الواجبات وقراءة مئات الصفحات من كتب الأدب والقيام بمسؤوليات عملي ومهامي التطوعية.
عند اقتراب انتهاء الفصل الدراسي الأول، قبل خمس شهور تقريباً، جاء وقتي المُفضّل دوماً من العام: وهو موعد إقامة معرض الكتاب في مدينتي. ذهبتُ وكلّي حماسٌ وقضيتُ يوماً في التجوّل بين دور النشر وتصفّح كتبها، ولكني كنتُ حذراً جداً في شراء أي شيء، لإدراكي لكم أن القراءة ستكون صعبة عليَّ في هذه الأيام. في النهاية، وقعَ اختياري على كتاب واحدٍ جذاب جداً، يتحدثُ عن توظيف الذكاء الاصطناعي في ألعاب الفيديو، فاشتريتهُ على الفور وعدتُ سعيداً إلى المنزل. كنتُ متعباً جداً عند عودتي، فوضعتُ الكتاب (المُغلّف بالنايلون الجذاب) على طرف مكتبي، حيثُ أضع باقي كتبي ودفاتري وأوراق الدراسة. في هذه اللحظة، لا يزالُ هذا الكتابُ مغلفاً بالنايلون وجالساً إلى جانبي، ولا زلتُ أتحرّق شوقاً لفتحه وقرائته.
لعلَّ كسلي وبلادتي كان لهُما دورٌ في هذه المأساة، ولكنها أيضاً كانت ناتجة - بدرجة كبيرة - عن ضغوطات تخصّصي. في الوقت الحالي، يطلبُ مني أساتذتي قراءة ما لا يقلّ عن 100 صفحة من الكتب والقصص والمسرحيات والأشعار الإنكليزية أسبوعياً. لا يكفي أن عليَّ قراءة كميات مخيفة من الكتب، وأنها بلغة أجنبية وصعبة عليّ، وأن عليَّ كتابة الكثير من الفروض والواجبات عنها، ولكن أسوأ ما في الأمر هو أنّ كل العبء الذي تضعهُ الجامعة عليَّ الآن لا يساعدني في الحقيقة سوى على اكتساب معرفة ضئيلة جداً بمجال اختصاصي. فبعد ما درستُهُ على مرّ العامين الماضيين وما اطّلعتُ عليه من أشكال وصور الأدب، يمكنني الآن أن أدركَ جيداً أن ثمة ما لا يقلّ عن مائة كتابٍ ورواية عليَّ قرائتها على مرّ السنين القادمة قبلَ أن يكون لديَّ من الاطلاع والإلمام بالأدب ما يفترضُ بطالب اللغة الإنكليزية أن يمتلكه. خلال السنتين الماضيتين، لم أتمكَّن من التبحّر سوى بقسمٍ ضحلٍ جداً من اختصاصي الفعليّ، ولا زالَ عليّ تخصيصُ الكثير من السنوات وآلاف الساعات لاحترافه.
وهنا، عندَ تأمّلي لكلّ هذه القصص والذكريات والأفكار غير المترابطة جداً، أشعرُ بالسوء الشديد، لأنني أجدُ نفسي مجبراً - عاجلاً أو آجلاً - على الإقرار أمام نفسي بالحقيقة، وهي أن حياتي أقصرُ بكثيرٍ من معرفة كلّ ما كنتُ أتمنى معرفته. كنتُ أعتقد فعلاً أني، عندما أصبحُ عجوزاً في الخمسين أو الستين، يمكنني أن أكونَ قد أصبحتُ ملماً بكلّ مجالٍ أحبّه بالحياة، وأني سأكونُ قادراً على الإجابة على أيّ سؤال وإخبار الآخرين بكلّ ما يودون معرفته عن كلّ أشكال العلوم والأدب والمعرفة. وأما الآن، وأنا أنغمسُ وأغرقُ شيئاً فشيئاً في دراسات اللغة والأدب، فمن الواضح، وربّما الواضح أكثر من اللازم، أني سأستمرّ بالانغماس في مجالي هذا لوقتٍ طويل، بحيثُ أني عندما أكون قادراً على التفرّغ لباقي ما يثير شغفي ويداعبُ فضولي في الحياة، قد يكونُ الوقت المتبقي قليلاً جداً لتعلّم أي شيء.
التعليقات