لن أدخله مرة أخرى!
عشر خطواتٍ كانت تفصِلنُي عن باب حضرة المدير، تزدادُ وتنقصُ بذهابي وإيابي. سؤالٌ قلقٌ كان يَشغَل عقلي، ويُخربِش أفكاري، فيُربِك أفعالي ولا سبيل كنتُ أعرفه لجواب: كيف سأفُصح له عن الأمر الجلل؟ كيف سأَجرؤ على إخباره بأنَّني سأَتركُ العمل؟
يدي تمسح ناصيَتي في محاولةٍ بائسةٍ لإسعاف عقلي، تلحقها أختُها الشقية لتلعبَ بشاربي. نفسي تحدِّثُ نفسي بلا كلل: ما بالُكَ يا رجل؟ ما الذي دهاك؟ أنت الواثقُ من نفسه، الثابتُ في قراراته، لستَ أول من يترك العمل، وطبعاً لن تكون الأخير. فقط هدئ من روعِك، واستَجمعْ قِواك.
أَتَّجِهُ إلى برَّاد الماء في أول البهو، ألتقطُ كوباً وأجترعُه بحملةٍ واحدةٍ، ثم أخطو هوناً حتى الباب. "ابتسمْ بعض الشيء.. لا لا كُنْ جدِّيَّاً.. زرِّرْ قميصك" سُحقاً، لقد سقط أحد الأزرار! أين؟ متى؟ كيف سقط؟ لا أعلم!
أطرقُ الباب العالي ثلاثاً ثم أدخل الغرفة الواسعة. طاولة اجتماعاتٍ طويلةٍ على يساري ومكتبٌ فخمٌ على يميني. يقف المدير بجلالة قدره العظيم ويمدُّ يده ليُصافِحَني بابتسامةٍ هي أبرد من جوِّ الغرفة، ينكمش جسدي صاغراً أمام جثَّتِه العظيمة التي تشغل رُبع مساحة الغرفة على اتِّساعها. يجلس على كرسيِّه… "كرسيّ؟ إنَّه عرشٌ يا فهمان!" يدعوني للجلوس، فأضع هاتفي على طاولةٍ متروسةٍ بالمجلات والصحف أمامي ثمَّ أجلس.
بعد دقائقَ من الصَّمْتِ المَهِيب يبادرُني بالكلام:
صحَّتُكَ؟ أحوالُكَ؟ أخبارُكَ؟ الخ…
تمام التمام، كلُّ شيءٍ على ما يرام… صحَّتُكم؟ أحوالُكُم؟ رضاكم عنَّا؟ الخ…
يسود الصَّمْتُ من جديد…
يَدُه على كَرِشِه العظيمة والأخرى تلهو بقلمٍ يساوي معاشيَ الشهريَّ كاملاً، ينظر إليَّ باسماً مُستَفهِماً: خير؟ سببُ الزيارة؟
"أنت تعلم تماماً أنَّني أعمل هنا منذ زمنٍ طويلٍ، أعمل في ظروفٍ بائسةٍ كالعبدِ بلا شروط. أنا العاشقُ لمجال عملي، الهاوي لتفاصيله، بِتُّ أكره كلَّ ما يَمُتُّ إليه بصلة، لقد تعبتُ من العمل، مللتُ هذا المكان الذي يَسلبني كلَّ وقتي، كرهتُ في هذه الشركة نفسي وحياتي ومن حولي.
معاش؟ أيُّ معاشٍ يا رجل! ألَا تستحي أنْ تسمي هذا معاشاً! إنَّه (خَرجيَّة) أصبح اليومُ الذي تتكرَّمون فيه عليَّ بها عيداً! أصبحتُ أدخل المنزل منتصفَ الليل خِلسةً حتَّى لا تَلْحَظَنِي صاحبةُ البيت، تلك العجوزُ التي تصِّر على ألَّا تموت قبل أنْ أدفع لها آخر قِرشٍ من الأجور. بقَّال الحيِّ ما عاد يَذْكُرُ لي ثمن ما أشتريه، بل يسجِّلُه تلقائياً في دفتر الدين الأصفر.
أمَا وقد بلغ السيل الزُّبى؛ فقد قرَّرت ترك هذه المُستَعمَرة، وإنَّني سَأرضى بالجحيم بدلاً عن هذا المكان."
أقف سريعاً، أَرْمُقُهُ باحتقارٍ، ثمَّ أخرج سافِقاً الباب ورائي.
آه.. ليتَ هذا الذي كان قد حدث، لكنَّه العكس تماماً:
"حضرتُكم تعلمون يا سيدي، وأنتم خيرُ العالمينَ، أنَّني أعمل في ربوع هذه الشركة منذ زمنٍ طويلٍ، وإنَّني أُكِنُّ لكم خالص التقدير والاحترام لاحتضانِكم ليَ في شركَتِكُم، وتحملِكم لأخطائي، ولغضِّكُم الطَّرف عن عثراتي. غَمَرتُموني بكرمِكم، وفضَّلْتُم عليَّ بأكثَرَ مما استحقُّ، لكنَّني مضطَّرٌ لترك العمل لأسبابٍ شخصيةٍ أرجو الاحتفاظ بها لنفسي."
كلماتي هذه كان لها وَقْعُ الصَّفعة على أُذُنِه. قَطَّبَ حاجبيه، وزال أيُّ أثرٍ للرضى من على وجهه، وحلَّقتْ عيناه بأفكاره فحطَّتْ على أغصان الشجرة الإصطناعية في زاوية الغرفة.
لحظاتٌ ثمَّ يعودُ إليَّ بنظراته وقد صَعَّرَ خدَّه.
هل تريد زيادةً في المعاش؟ هل المسألةُ كذلك؟
لا لا سيدي. بحقٍّ هي أسبابٌ أخرى. أسباب…
تقديم الاستقالة لزيادة المعاش… هذه ورقةٌ خاسرةٌ لعبَها زميلٌ لي، فمَا نالَهُ منها سوى بعضَ الوعود طوال شهور، إلى أنْ وجدوا البديل، وصار هو خارج الشركة.
حَسَنٌ، لك ما تريد. لكن فلتعلّمْ جيداً يا كامل أنَّ هذا الباب ما عاد مفتوحاً لكَ، وسيكون من الصعب عليك أنْ تعود الى هنا مرة أخرى. أمَّا عن نصيحتي – التي لم أسألهُ عنها – لو عملت في مكانٍ آخر، فَحذار أنْ تدع أحداً يستغلَك! وأسألُ لكَ التوفيقَ.
نصيحتُكم ـ التي لم أسأله عنها ـ حلقةٌ في أُذني. شكراً جزيلاً.
يسود الصَّمْتُ من جديد، فَأعِي أنَّه قد حان وقت الذهاب. أقف، أمدُّ يدي لأصافِحَه فيمدُّ يده وهو جالسٌ. أخرج من غرفته مغلقاً الباب هوناً، أَشعُرُ بحريَّة الخارجِ من سجنه الأبديِّ. لقد ذهب الهمُّ، وزال الغمُّ. أخطو مبتعداً عن مكتبِه الذي لن أدخله مرَّة أخرى حتَّى لو جرُّوني إليه بالسَّلاسل. أَخطو خطوةً أخرى؛ تبَّاً! لقد نسيتُ هاتفي على طاولة المكتب.
التعليقات