المقدمة:
لم يكن مختلفًا عن الآخرين...
عيونه كانت ترى مثلهم، يديه تتحرك، ونبضه لا يزال يُسمع في صمت الليل.
لكنه لم يكن "هنا" تمامًا.
كل شيء فيه كان يشبه الحياة، إلا الحياة نفسها.
كان يمشي وكأن الأرض ترفض خطواته، وكأن الهواء حوله لا يريد أن يُستَنشق.
لا يبتسم كثيرًا، ولا يتحدث إلا حين يُجبَر.
صوته منخفض، كأنه يعتذر عن وجوده.
في عتمة غرفته، لا تُسمع إلا صوت تنفسه المتقطع، وكأن صدره يُقاوم كل نفس،
كأن كل شهيق حرب، وكل زفير هزيمة.
جدران المكان حفظت سره، والكرسي الخشبي القديم حفظ انحناءة جسده.
هو لا يكره الناس…
لكنه تعلّم أن الوحدة أحيانًا أرحم من خيبة جديده.
كان أشبه بشبح…
يمرّ من بين الجميع دون أن يلمسه أحد.
---
الفصل الأول:
دخلت حياته بهدوء…
زي نسمة خفيفة دخلت من شباك مقفول بقاله سنين، وكسرت صمت كان هو ناسي إنه موجود.
كانت ملامحها كأنها مرسومة بريشة...
وشها هادي، وعينيها فيها دفء، دفء يكفي يطمنك إنك مش لوحدك.
ضحكتها مش عالية، لكن كانت بتعمل دوشة في قلبك.
كانت بتتكلم وكأنها بتحاول توصّله إن الدنيا أهدى مما هو فاكر…
كل حاجة فيها كانت بتقوله "اطمن"، من غير ما تنطق الكلمة.
كان بيستناها من غير ما يعرف إنه بيستناها.
وجودها في يومه بقى زي ضيّ خفيف في آخر النفق… مش بينوّر الطريق، بس بيخليه يكمّل.
كل مرة بتضحك فيها، كان قلبه بيحاول يفتكر يعني إيه ينبض.
وكل مرة بتسأله "مالك؟"، كان نفسه يجاوبها:
"أنا كلّي كسور، وجودك بيخلّي الوجع يحتمال".
هي ما وعدتش بحاجة…
ولا قالت له كلمة حب،
لكن كل حاجة فيها كانت شبه الوعد.
نظرتها لما تبص له وتسكت.
صوتها لما تنادي اسمه كأنه أغنية مش هتتكرر.
وهو…
صدّق إن دي البداية.
صدق إنها شايفاه بعين تانية… مش زي الباقي.
صدق إنها هتفضل،
صدق إن اللي بينه وبينها مش صدفة.
كان لما يقعد معاها، الدنيا بتسكت.
حتى الزحمة اللي جواه كانت بتسكت.
كأنها بتعرف تهدي صوته الداخلي، اللي عمره ما وقف.
مكانش بيتكلم كتير،
بس معاها… الكلام كان بيخرج لوحده.
وكأنها الوحيدة اللي سمعته.
هي كانت مبتسمة دايمًا،
مش ابتسامة فرح،
ولا حتى ابتسامة شفقة…
دي كانت ابتسامة من نوع تالت،
نوع بيخليك تصدق إنك تستحق تتحب،
حتى لو عمرك ما حسيت كده قبل كده.
كان بيكتب ليها كلام،
ويخبّيه…
ويقول: "مش دلوقتي… يمكن بكرة."
كان بيحضّر لها مفاجآت صغيرة،
ويفرح من نظرة دهشة في عينيها.
كانت حياته بتتغيّر…
مش بسرعة،
لكن بتغيّر حقيقي.
كان بيرجع يضحك.
بيرجع يحلم.
بيرجع يحس إن الدنيا ممكن تكون أرحم.
هو ماكنش عايز منها حاجة، هي كانت كل حاجة.
كان شايفها ملجأ... مش شخص.
أمان... مش حب.
كان شايفها طوق نجاة في بحر هو نفسه ناسي إنه بيغرق فيه.
ومع كل لحظة بيقضيها معاها، كان بيقرب أكتر...
وبيبعد عن كل حاجة تانية.
نسي الدنيا، ونسي نفسه.
---
الفصل الثاني:
كل يوم بيقضيه معاها، بيزود في الصورة اللي رسمها ليها جواه…
كان شايفها النور الوحيد وسط العتمة،
وكل لحظة معاها كانت بتأكد له إنها مش زي أي حد.
صدق إنها مختلفة…
وصدق أكتر إنه أخيرًا لقى اللي يستحقه.
بنى حواليها حلم كبير…
مش حلم حب وبس،
لأ… حلم حياة كاملة، فيها أمان، ودفا، وصدق.
كانت بالنسباله الملجأ،
المكان اللي بيرجع له لما العالم يوجعه.
وعلشان كده…
لما اختفت،
ماكسرتهوش هي بس،
ده وقع العالم كله اللي كان شايفه من خلالها.
وفي يوم…
من غير مقدمات، ومن غير أسباب واضحة،
بعد كل القرب… بعد كل الضي اللي دخل حياته، اختفت.
ماقالتش وداع،
هي بس بقت مش موجودة.
زي ما دخلت بهدوء، خرجت بصمت أبرد من اللي قبله.
هو ما فهمش...
كان فاكر إنهم لسه في البداية،
كان مصدق إن اللي بينهم مش وهم.
الضحكة اللي كانت بتطمنه، بقت ذكرى بتوجعه.
العيون اللي شاف فيها نفسه، ما بقتش تبص له خالص.
الصوت اللي كان بيهدي الزحمة جواه، سكت…
وهو رجع يسمع نفسه تاني…
بس المرة دي، الصوت كان أعلى، وأقسى، ومليان كسرة.
اللي كانت حضنه من غير ما تلمسه…
بقت غريبة.
واللي كانت وعد من غير كلمة…
بقت خيبة بكل المعاني.
حاول يفهم،
راجع كل حاجة من الأول،
كل كلمة، كل نظرة، كل لحظة.
بس مفيش تفسير.
هو اتكسر، مش بس علشان مشيت…
لكن علشان مشيت وكأنها ماعدتش شايفاه،
كأن كل اللي حصل، محصلش.
الرسائل اللي خبّاها،
بقت وجع بيقراه لوحده.
هو ماكنش عايز منها كتير…
كان بس نفسه تفضل.
بس لما سابت إيده،
ماوقعتش بس روحه… ده وقع الحلم كله.
الحلم اللي كان بيعيشه معاها،
صحى عليه لوحده.
والنُّور اللي شافه فيها،
طلع نور انعكس وحرّقه.
وهو؟
رجع زي ما كان،
بس أكتر شوية…
أكتر وحدة، أكتر كسرة، أكتر صمت.
بقي يضحك على نفسه،
يقول: "إزاي كنت مصدق؟"
هو بس كان محتاج يصدق إن كان في أمل إنه يتحب.
---
الفصل الثالث:
وبعد ما الهدوء رجع، رجع معاه السؤال اللي بيعض في عقله كل ليلة:
"هو أنا فيا حاجة غلط؟
هو أنا كنت كفاية… كانت هتفضل؟"
كل يوم، نفس الأسئلة، ونفس الوجع.
بقى يشوف نفسه في المراية، ويشوفها واقفة معاه.
وكل ما يحاول يهرب من التفكير،
يلقي نفسه بيغرق أكتر في الذكريات.
كان بيحاول يكمّل…
يمسك فتافيت الحلم، يرقّع بيها فراغ الأيام.
بيضحك قدام الناس، بس جواه كان بيصرخ.
كل حاجة بقيت لونها باهت،
حتى صوته لما بيناديها جواه، بقى بيكسر فيه أكتر ما بيرجع له صدى.
كان بيدّيها أعذار…
"يمكن تعبت، يمكن خايفة، يمكن لسه راجعة، يمكن… يمكن…"
الأسئلة ما بقتش بس بتوجعه،
بقت بتحاصره، تخنقه، تكتم على صدره،
لحد ما بقى يتمنى يختفي.
الليل بقى عدوّه،
والنهار بقي سجن.
الذكريات بقت خناجر،
كل ضحكة ليها… كل كلمة قالتها… كل نظرة…
بقت طعنات متوزعة على روحه.
وفي لحظة…
لحظة كانت أهدى من كل الصخب اللي جواه،
قعد على الأرض جنب سريره،
وفتح الدرج اللي عمره ما كان بيبص فيه.
طلع الشفرة.
مافكرش كتير،
مكنش محتاج يفكر…
كان الموضوع محسوم جواه من زمان،
بس النهارده قرر ينفّذ.
حط الشفرة على جلده،
ولأول مرة من سنين…
حس بحاجة.
مش ألم…
حاجة شبه الهدوء.
الدم بدأ ينزل،
وبنقطة ورا نقطة،
كان كأنه بيمسح كل الوجع اللي ما اتقالش.
كان عايز يسكت…
يسكت كل حاجة،
صوته، دماغه، قلبه، نفسه.
وفي اللحظة اللي كانت بتفصله عن الدنيا،
افتكر ضحكتها…
مش كحنين…
لكن كطعنة أخيرة.
الدم كان مالي الأرض، وعينيه شبه مغمّضة.
نفسه بقى متقطع، ضعيف.
وفي اللحظة اللي كل حاجة فيها سكتت…
صدره اتحرك تاني.
مكنش واضح إذا كان ده النفس الأخير،
ولا أول محاولة من قلبه إنه يكمّل.
التعليقات