دخلت المسجد أول مرة برفقة أبي، ولم أكن أعرف عن ديني سوى أن من يعمل صالحًا يدخل الجنة. كان ذلك أول درس لي. ومع مرور الوقت، صرت أستمع إلى خطب الجمعة، ولاحظت أن أبي يتأثر كثيرًا بها. في البداية، ظننت أن تعلقه بالدين يزداد، لكنني لاحقًا أدركت أن تأثره لم يكن بسبب الإيمان، بل بسبب سوء ما يسمعه من الإمام.
مع الأيام، بدأ حبي للمسجد يخفت، كما خفت إيمان أبي بذلك "العمل الصالح" الذي علّمني إياه. كنت ألومه، لكنه قال لي بحكمة:
"يا بني، سيأتي يومٌ يُهدم فيه هذا المسجد، وسترى أشياء كثيرة. سيأتي يوم تسقط فيه حجرة من جدرانه، وإذا لم تخرج كما دخلت، فسوف تسقط عليك. حينها لن يكون أمامك سوى خيارين: إما أن تهلك، أو أن تعجز عن المشي."
لم أفهم كلماته وقتها، لكنني واصلت الذهاب إلى المسجد كما اعتدت.
وفي أحد الأيام، لاحظت أن الإمام يرمقني بنظرات غريبة. ظننتها إعجابًا بخشوعي في الصلاة، لكنني فوجئت حين ناداني بصوت خبيث، يريد أن يسجنني داخل "بيت" من صنعه. عندها، تذكرت تحذير أبي، وفهمت أخيرًا معنى كلماته.
بفضل الله ثم بنصيحة أبي، نجوت. وأدركت أن اليوم الذي خرجت فيه من المسجد كان أكثر رسوخًا في ذاكرتي من اليوم الذي دخلته فيه. أما الحجرة التي حذّرني منها أبي، فلم تكن حجرًا حقيقيًا، بل كانت شيئًا مجازيًا، يتجسد بأشكال كثيرة...
لكنني لم أخرج من هناك خالي الوفاض، فقد تعلمت درسًا آخر. إن كان أول دروسي هو أن من يعمل صالحًا يدخل الجنة، فقد كان درسي الثاني أن من يعمل شرًا، يدخل النار. وهكذا، كانت هاتان الحقيقتان من أعظم الدروس التي غيرت حياتي إلى الأبد.
خروجي من هذا المسجد لم يكن مجرد خطوة، بل كان حلمًا كنت أدعو الله أن يحققه. تلك الحجرة التي قد تسقط لم تكن مجرد خطر، بل كانت سبيلًا لتحقيق حلمي. إما أن أغرق، أو أن أسجن وأُشلّ جسديًا، أو أن أتجنبها وأخرج كما دخلت، لكن بخبرة ووعي أكبر. كان ذلك هو خياري الثالث، والأصعب، فقد كان عليّ أن أرى الحقيقة كما هي، دون أن أكون ضحية لها.
كيف لا يكون المسجد جزائر، وهي أرض الطهارة التي يفوح عبيرها أينما كنت؟ كيف لا تكون، وهي التي تنبت كل خير، وقد سُقيت بدماء الملايين من الشهداء؟ كان باب مسجدي يحمل اسم "البرواقية"، وهناك وُلدت، فكانت ولادتي أول فرحة لي ولعائلتي بعد كل ما مرت به بلادنا من ظلام العشرية السوداء.
كنا ممتنين لرئيسنا الذي أخرجنا من ذلك الكابوس، لكن امتناننا غطى على المشاكل التي تلت، حتى صارت لا تُدرك إلا من قبل الحكماء. كنت أستمع إلى الخطب، لكن فهمي لها كان محدودًا، ولم أدرِ حينها أن تحذيرات أبي لم تكن عبثية، بل كانت حكمة مدفونة في الزمن، ستكشفها الأيام.
كلما كبرت، كلما أدركت القليل، وأدركت أن نعيم جهلي قد تحول إلى جحيم تعلّمي.
كيف لا أشعر بذلك وأنا أرى الفساد يتسلل إلى أبسط الأمور وأهمها؟ منهاج دراسي لا يعلمنا كيف نمضي للأمام، بل كيف نعود إلى الوراء. لا أحتاج إلى شرحٍ كثير، فلو شرحت، لاحتجت إلى أوراقٍ لا تنتهي لكتابة كل ما أراه. صار التعليم بابًا للحزن بدلًا من الأمل.
رأيت طائرة تمر في السماء، فشعرت بالحزن بدلاً من الفرح. كم كنا نفرح بجهلنا عند مرورها! حتى أفلام الهند التي كنا نضحك عليها أصبحت أقل سخرية من واقعنا. كانت تلك الأفلام مجرد تمثيل، لكن كيف يكون شعورك عندما تصبح الحقيقة أكثر قسوة من الخيال؟
صار الفرح يعود إلى الحزن من جديد. حقوق الشعب قد سُلبت، فكيف يُطلب منه أداء واجباته؟ أعمار الناس قد نُهبت، فكيف للإمام أن يسلبها من جديد؟
فراغ المسجد لا يعني دائمًا كفر الناس، والشوق إلى الماضي لا يعني دائمًا الخير، فقد يكون جوعًا للحاضر. أما أحلام المستقبل، فهي تشبعني، لكنها أيضًا تترك في داخلي شعورًا غريبًا، فكيف لا، وقد صار الحلم يمتد لعشرين عامًا دون أن يتحقق؟
الزكاة ليست مِنّة، بل دينٌ لله يؤدَّى في وقته، وسيأتي يومه عند مشيئته. والخروج من المسجد لا يعني هجره، بل ربما يكون خطوة إلى توبة أعمق، ورجوع أنقى.
بكاء الأطفال قد يكون طريقًا إلى النار، ودعاء المصلين قد يكون بابًا إلى النجاة. الكلمات تُعرف بمعانيها، لكن لا يزداد المرء علمًا إلا بأضدادها.
مجتمع لمشاركة وتبادل القصص والتجارب الشخصية. ناقش وشارك قصصك الحياتية، تجاربك الملهمة، والدروس التي تعلمتها. شارك تجاربك مع الآخرين، واستفد من قصصهم لتوسيع آفاقك.