12/01/2022 H: 19:07 قسنطينة

الأربعاء..

مساء بارد جدا

وصلنا قسنطينة بعد طريق طويل...

استقبلتنا هذه المدينة ملتحفة وشاحها الأبيض، بملامح جافة خالية من التعابير رحبت بنا، تمنيت لو كان بإمكاني رؤية قسنطينة الأخرى، تلك الأنثى المتأنقة التي تحمل في عنقها سلسلة من جسور الحضارات والتواريخ، تلك التي تتخذ من الماضي عطرا تسحر به العابرين وتشدهم إلى شباكها المتينة، لم نكن اليوم من العابرين بين طرقاتها لم نستطع ان نحظى بفرصة للتمتع بعطرها..

دخلناها كاللصوص من بعيد نحدق إليها وإلى منحنيات جسدها، لم تأخذنا نهاية الطريق إليها، بقينا نراقبها عن كثب مثل مجموعة من اللصوص الفاشلين وقطاع الطرق عجزنا على كسر أبوابها أو وضع أقدامنا فوق جسورها..

مستلق هنا رفقه احمد و 44 شخصا متوزعون بهذا النادي الفسيح ملتحفين أوشحتنا وأغطيتنا المهترئة، محاولين الفرار من أيادي البرد التي تتخاطفنا من كل جانب وتعبث بمشاعرنا وتتلاعب بكل مخططاتنا...

مبعثرين بين كآبة وحزن، محتجزون بين حنين الى الماضي وشوق للقادم..

والماضي يعني البعض، حنين إلى أولئك الذين تركنا خلفنا بمدينة بلعباس، وشوق الى القادم وما يحمله لنا من مفاجآت بتلك المدينة التي لم أزرها يوما، مدينة باتنة، وجهتنا الجديدة، وربما ستكون محطتنا الأخيرة..

باتنة مدينة أعرفها بتاجها التيمقادي الماسي الذي يزينها ويزيدها رونقا وجمالا...

هذا كل ما اعرفه عنها، وربما أعرف عنها الكثير دون أن أدري، أعرف جلال الدين وهذا يكفي

معرفتنا للمدن والأماكن لا تتعلق دائما بزيارتها، أحيانا يكفي أن تعرف شخصا من تلك المدينة، أن تحبه بصدق، أن تعبر حدوده وتأخذ جولة بقلبه، بعدها لا حاجة لك لزيارة المدينة، فانت حينها تملك شيئا أكبر منها...

لم أزر مدينة قالمة يوما، فقد كان سيف الدين يغنيني عن قطع كل تلك المسافات الطويلة، كان مدينة، بل وطنا أو أكثر

يُفتح الباب مرة أخرى..

يقاطعني كمال وهو يخطو نحوي ويتقدم بخطوات بطيئه معيدا إلي السجادة.

ربما الصلاة هي كل ما تبقى لنا في هذا المكان البائس، لا نكف عن الدعاء من الله بأن يحفظنا ويخلصنا من هذه المأساة التي لا تريد أن تنتهي...

كان الجميع مستلق بأسرة موزعة بعشوائية فوق الأرضية الباردة، كان التلفاز ومباريات تصفيات كأس أمم إفريقيا مهربنا الوحيد في ذلك النادي المتسع ببابه الحديدي الذي يفتح ويغلق بين الفينة والأخرى...

يزداد البرد حدة، يعبر أرواحنا ويهزنا من الداخل هزا..

عاجزون عن التأقلم، فقد سئمنا أخذ دور الحرباء دائما، نتلون مع كل واقع مع كل وضع بائس حزين، لم نجد بطريقنا لون للسعاده لنتلون به، فقط أيام سوداء وواقع معتم يحيطنا من كل جهة ويشد على أنفاسنا المتقطعة ويرغمنا على التفكير بهذه المحنة كل دقيقة..

يأتي صوت أحمد بجواري مثل منبه يوقظني من غفوتي، بعد أن ظننت أنه لن يتحدث..

قال بصوت تتبعه الآهات جملة واحدة وصمت: لابد من المغادرة، لابد من الذهاب إلى مدينة باتنة..

لم يعد الوضع يطاق، وكأننا نطلب من القدر بأن يصغي إلينا مرغما، بأن يخلصنا من هذه المصيبة التي أصبناها بأيدينا..

أحس بالعجز يملأني، أحس بالأمنيات تتزاحم بداخلي دون أن أجد عود كبريت لإشعالها، دون أن أجد قداحة لاضاءة الطريق اليها...

صعب هو احساسنا بالعجز، إحساس قاتل، متعب، يغتال كل يوم المزيد من الأمنيات والآمال فينا..

بدأت المباراة بين الكوت ديفوار وفريق آخر لا أذكره..

أول ما يخطر على بالي وأنا أحدق إلى شاشة التلفاز وإلى الملعب الأخضر..

صديقي سيف الدين، لابد أنه يشاهد المباراة، كان لا يفوت مباراة إلا وشاهدها، أراه يفر من جو الشالي الخانق نحو مدرجات يأخذها كفسحة أمل، كإبرة منشط يحقن بها نفسه كل مساء للوقوف بعد كل تعثر..

ذلك الشاب الطيب، الذي أكتفي بالحديث معه، صمتا

لا يقول الكثير ولكني أرى بداخله الكثير، بعينيه يبدو الحلم كبيرا جدا..

حلم ببيت دافيء، وعائلة،وربما سيارة ايضا، هكذا هي احلامنا بهذا البلد اللعين، حقوق بدول أخرى.. للأسف

أمنيات نتشاركها، ونسقيها بطموحنا، في مكان لعين، وجغرافيا لا تنمو فيها الأحلام، ارض صالحة لإنتاج أكبر كمية من الفاشلين

اه يا صديقي كم اشتقت اليك، وما الاشتياق إلا طريق طويل نقف عند عتباته كل يوم نسترجع الذكرى وندون بدفاترنا بعض اللحظات التي لا يجب ان تُنسى، نحدق الى كل شيء، نتذكر كل التفاصيل ولكننا مع ذلك نبقى عاجزين على استرداد شيء

إنطفات الأضواء فجاة، وقاطعتواطفات معها جنون قلمي الذي كان يبتعد بي نحو محيطات اكبر وأعمق...

كان يجب علي أن اطفئ افكاري أيضا، كان يجب أن أتوقف عن الكتابة..

قسنطينة اليوم لم تكن كما توقعتها هذا الصباح، لم تكن كما توقعتها... مع الأسف..

# قسنطينة مأساة أخرى