كل ما له شأنٌ في أن يجعلك مُتغيّرًا من جذرك درجة ستلجأُ له، حتى وإن كانت الدرجة تلك هي العتبة الرفيعة لباب منزلك

أن تخرُجَ من قاعِك ومن هذا السياج الذي كبّلَـك، نحو الخارج الغير مألوف كأن تجُرَّ أفكارك المجنونة معك التي تبنيتها إثر فيلمِ رُعبٍ شاهدته

أو مشاهد مرئية مُنتقاة لتشبع فضولك، أو كتابًا تقرَأُه ليقودك بكل أسراره نحو العالم الآخر، ذلك العالم الخفيّ الذي تظنهُ لعبة تستطيع خوضها من باب الخوض، لتختار شريكًا لك، شاهد عيانٌ في المأزق الذي تظنهُ أرجوحة لِـلّعب

لقد كُنا شَراكةً يا سادة، فضتُ من حيث لم يفيض الناس، فقط هو و الآخر أنا، اثنان فقط في المأزق دون تعريف للهوية التي قد تكون مجهولة في نهاية المطاف، تشاجرنا لأننا لم نحسم الأمر، في المطبخ تحديدًا، كِلانا لقد جرَّ الآخر من باب المُزاح "من مِنا سيختار!" "فيلم رعب يتحدث عن الأرواح أم قصص إذاعية مسموعة تُشبِعُ فضولنا الذي سيقودنا أكثر و أكثر لسلك هذا الطريق

لم نحسم الأمر في الأخير أيضًا لذكرنا أنها إما أفلام عن الأرواح و إلا فلا، فإنقلبنا على أعقابنا عندما انقلب زُجاج دولاب المطبخ بطريقة غريب و أكثر غرابة وإلفات، كِلانا نظَرَ إلى الآخر وقد تجاوز ذلك، فرسينا بهذه النظرة، بالقصص المسموعة بعنوان "جاري الغريب" ثم دلَفنا إلى غرفة نوم واستلقينا بسريرٍ واحد، تشاركنا سماعة واحدة وعُمنا في القصةِ كما لو كُنا -ناصر- ضحية القصة التي نستمع إليها و عند منتصف الإنسجام اخترق مسامعنا الآذان من المنبر، لم نكن نعي مدى رهبة الآذان في حضرةِ الخوف، توقفنا لنُصلي من أجل هذا الخوف لعلَّـهُ ينطفئ..

إنتعلنا أحذيتنا ذاهبان بكل الرجاء لله إلى الجامع ليجمع قوانا من جديد التي أسرفناها في قصَّة!

و على عتبةِ بـاب دورةِ المياه لأتوضأ، طفلاً أرصدُ عمرهُ في ذاكرتي ذا تسعة أعوام وإن تزيدون

يحوم حولي بطاقيّته المؤذِّنة بطريقة غريبة ليقول "أنا جني" فيلمسُ ذراعي بسبابتهِ ليقول مُكرِّرًا "أنا جني" و ثالثة ثُم أخرى "أنا جني"!

ارتعدتُ.

فنظرتُ الشريكَ لي في مأزِقي فارتعدَ مُنصرفًا ومتجاهلاً ما يحدثُ لي ثم استجمعتُ قوايَ فقلتُ "لعنكَ الله إن لم تبارح مكانك لأبرحنّك ردةَ خوفي" فأكملتُ طريقي للصلاة وعندَ إنتهائي من صلاتي وعندَ سلامي أدركتُ أنهُ بجانبي لقد قلت في داخلي "يا للمأزَق" ثم انصرفتُ لأنتعِل حِذائي فترصَّد هذا الكائن الذي لا تُحتمَل خِفَّته خطواتي ليُردِّدَ وأنا ذاهبٌ من على الباب مرة أُخرى "أنا جني"..."أنا جني"

أسرعتُ خطواتي لأخرج من هذه اللعنة التي تحدُث ليلحقني حتى صار بكل تلك اللعنة ثلاثة صِغارًا آخرين! فخرجتُ من الجامع بعيدًا، حيث نظرتُ ورائي يقفزون على عتبةِ باب الجامع غير متجاوزين، كأنهم شياطينُ ابليس مُترصِّدة ينتعلون الهواء بمسافةِ إصبع سبابة.

يقفزون ثم يقفزون غير متجاوزين.. بملامحٍ موحَّدة بينهم، وتقاسيم حادَّة

فأكملتُ طريقي مُتماسِكًا وإياي صاحب المأزق، صاحب هذا الصبر، للعودةِ إلى الديار حيث التوبة من كل تلك الأشياء

في الحقيقة لم نتحدَّث عن الأمر، لقد تشاركنا الصمت الطويل، كُنا نتحدث صامتين لهول الموقف.. لقد آمنتُ حينها أنَّ الصمت سيدُ الموقف

حتى أننا لقينا في مشينا هذا نصبًا عندما رأينا قطةً بيضاء تُفصِّلُنا نظرةً و يسيلُ من فمها دماء بعيون سوداء نظرت إلينا حتى نهاية الطريق.. فأي حماقةٍ ارتكبنا...! أن نختار الشجاعة من باب اللهو فنظن أننا سننجو أبطالاً.

عدتُ بياتًا لم أخرُج إلى الجامعِ مرة أخرى عندما كتبت في ورقةِ التدوين "أنا في البيت في هذا المأزق الكبير، لم أجد صاحب هذا الصَّبر، الجار الغريب.. فمن هوَ إذن؟"

بقلم يزيد بوسعد