كنت أعمل في شركة كورية، فجاء وقت تناول الغداء للعاملين فخرجنا جميعًا، وكانت الشمس في ذلك اليوم من أصعب ما يكون، وقانا الله وإياكم من جهنم وظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله. فبعد وصولنا لموقع تناول الغداء قمنا باستلام الوجبات سريعًا، وقد كنت ظمآن لدرجة عجيبة حتى شعرت أن حلقي جف تمامًا، وقد كنا في مكان أغلب مياهه مالحة، فكانوا يعطوننا مع الوجبات الغذائية زجاجة ماء معدنية. ومن عادتي أنني لا بد لي أن أشرب الماء قبل كل شيء، فأمسكت بزجاجة الماء لأروي عطشي الذي جعلني أفقد تركيزي، وكنت حينها سعيدًا لأنني سأروي عطشي ذاك. فما إن أمسكت بزجاجة الماء لأجدها ساخنة حتى إن أغلب الناس لا يستطيعون الشرب منها، فذهبت لأختار غيرها لأجد أن جميع الزجاجات ساخنة لعطل حدث تسبب في ذلك.
فما كان لي خيار لأروي عطشي سوى الشرب من ذاك الماء، رغم أن هناك الكثير من الناس في نفس المكان معهم مياه خاصة بهم مثلجة، ولكن لم أعتد من صغري على الشرب من أحد إلا إن كنت أعرفه جدًّا. ففتحت الزجاجة الخاصة بي وسميت الله وشربت، لأجد نفسي كأن الماء لم يجر في مجراه، وشربت الأخرى فالأخرى وكأني لم أشرب البتة. وكانت تلك المرة الأولى لي التي أجرب شرب مياه ساخنة بهذا الشكل لأنني كنت مضطرًا. فنظرت للزجاجة وقد تخطيت أكثر من نصفها، وقد كانت لترًا ونصفًا، فلم يرو عطشي البتة، وكأن الله عز وجل نزع منه خاصية الري.
فما أن رأيت ذلك المشهد أمامي حتى ارتجف قلبي وأنا أتذكر حال أصحاب جهنم، نعوذ بالله منها، وهم مأكلهم ومشربهم الحميم، وإن جعل الله لذلك الحميم قابلية على الشرب فلن يروي البتة عطشًا. تذكرت قوله تعالى:
﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر إِنّا أَعتَدنَا لِلظّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِم سُرادِقُها وَإِن يَستَغيثوا يُغاثوا بِماءٍ كَالمُهلِ يَشوِي الوُجوهَ بِئسَ الشَّرابُ وَساءَت مُرتَفَقًا﴾
[الكهف: 29].
ولو شاء سبحانه لجعل ذاك الماء الذي وصفه بأنه ماء كالمهل يروي كالماء الصافي الزلال، لكن من رحمته أن يضع خواص لكل شيء. فالذي يُشبعك ليس الطعام وإنما خاصية الشبع التي وضعها الله لك في الطعام، وكذلك الماء ليس هو بذاته وعناصره الذي يرويك، وإنما خاصية الري التي وضعها المولى به. وغيرها من النعم ذات الخواص الإلهية التي ما إن نتأمل تلك الخواص لنعلم لماذا نقول: بسم الله في الشربة الأولى مثلًا، وبعد الانتهاء منها نقول: الحمد لله. ثم الثانية كذلك، فالثالثة... والتسمية قبل تناول الطعام وبعد الانتهاء نحمده على أنه قد مرر لنا تلك الخاصية العظيمة من شبع وري.
فتخيلوا معي أحبتي أن تُنزع تلك الخاصية من إحدى النعم! سبحان المنعم المنان الكريم. والله شعور غريب عندما مر عليّ ذاك الموقف، ولكن سبحانه يمرر علينا مثل تلك الأمور لنتعظ ونتدبر نعمه وحكمته العظيمة، فهل من مدّكر؟ والله لو نظرنا لكل نعمة بتلك النظرة لعلمنا أننا لا نستحق حتى باعًا من جنة ولا رحمة منه، وهو الرحيم الغني عن العالمين.
أتعجب كل العجب لمن تجبّر، ولمن طغى، ولمن أسرف في النعم، فمن في بحر يركب سفينة يظن أنه لن يظمأ أبدًا لأن الماء محيط به من كل اتجاه، ولا يعلم ذلك المسكين أن تلك النعمة المحيطة به قد تكون السبب في هلاكه إن أساء لها. فنحن نفقد نعمة الإحساس بتلك النعم لأننا غارقون فيها، نسينا أنها بلاء واختبار لنا.
فكل النعم أحبتي، من مال وجاه وسلطان ومأكل ومشرب وغيرها، ما هي إلا بلاء لنا من الله، والغرض من ذاك البلاء يوضحه لنا القرآن بدقة عجيبة. فقد وقفت عاجزًا عند تلك الآية، ولا أعلم إن سبقني أحد بما قلته وما سأقوله لكم الآن:
فقد كنت أقرأ سورة النمل فمررت بقوله تعالى:
﴿قالَ الَّذِي عِندَهُ عِلمٌ مِنَ الكِتابِ أَنا آتيكَ بِهِ قَبلَ أَن يَرتَدَّ إِلَيكَ طَرفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُستَقِرًّا عِندَهُ قالَ هَذا مِن فَضلِ رَبّي لِيَبلُوَني أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّما يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّي غَنيٌّ كَريمٌ﴾
[النمل: 40].
فها هو نبي الله سليمان عليه السلام الذي منّ الله عليه بنِعم جمّة، فعلم أن كل تلك النعم ما هي إلا بلاء من الله لتمحيص الناس، فمنهم من سيشكر بطرق عدة، ومنهم من سيكفر بطرق عدة. والصنفان نراهما يوميًّا رأي العين.
فانظر لنفسك: من أنت من هذين الصنفين؟ هل كنت شاكرًا لتلك النعم أم كافرًا بها؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأود منكم أن تشاركونا بمواقف جعلتكم تقفون وقفة موقظة أمام نعمة من نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى، عسى أن توقظ قلبًا كان غافلًا كما أرجو ذلك بكتاباتي. ونسأله الإخلاص في القول والعمل.
هذا والله أعلم.
التعليقات