على خلاف ما كان سائدا في السابق، وكما أشرنا في مساهمتين منفصلتين إلى نظريات تتعلق بالتعلم والتعليم بشكل عام، وناقشنا فيها النظرية السلوكية، ونظرية التعليم الغشتالتي تواليا:
فإن النظرية البنائية تفترض أن التعلم الحقيقي يتم بناؤه بشكل داخلي متأثرا بالبيئة والمجتمع واللغة وأسلوب المتعلم الخاص، وأن تكرار المعلم للمعلومة وتكرار الطالب لها وراءه أمر لا يجدي نفعا في الحقيقة، ولن يكون مساهما في بناء حصيلته العلمية لا سلبا ولا إيجابا، لأن تلك المعلومة ببساطة لم يتم إنتاجها داخليا، وبالتالى فهي لن تدوم في ذاكرته ناهيك عن كونها غير مفيدة له عمليا، حتى ولو تذكرها بقية حياته!
تسعى النظرية لإثبات أن المعرفة يتم بناؤها على يد المتعلم وليس المعلم كما جرت العادة، وأن دوره ينحصر في فتح آفاق المتعلم واكتشاف النمط المناسب للمتعلم وتدريبه على بناء المعرفة الحقيقية بناء على ما يُعرض عليه من معلومات.
أذكر أن أحد الألعاب التي كان يلعبها معنا والدنا عندما كنا صغارا، كانت شبيهة بتلك النظرية في فكرتها العامة، حيث كنا نجتمع أنا وإخوتي ويقوم هو بوضع أحد الأشياء الغريبة عنا أمامنا:
لعبة بلاستيكية لحيوان لا نعرفه، نوع من الخضروات أو الفواكه التي لا نعرفها ويندر وجودها بالبيت، قطعة من القماش لها ملمس غير الذي اعتدناه ..... إلخ.
ثم نبدأ نقاشا حول ما هو هذا الشئ، وما هو أقرب شئ نعرفه مشابهه لهذا الذى نجهله، هل يتغير شكله أو حجمه بلمس الماء، هل يمكن تقسيمه لأجزاء أم أنه قطعة واحدة، ..................، وغير ذلك من الأسئلة التي لا تنتهي بهدف التعرف على هذا الشئ الغريب.
فمثلا لو أننا لا نعرف الإسفنج، ورأينا قطعة صغيرة منه، سنتمكن مبدأيا من تمييز لونه وكتلته الخفيفة، سنلاحظ أننا يمكننا تمزيقه باليد الخاليه، وعند تمزيقه يتناثر بعض الغبار، عندما يوضع في الماء فإنه يمتلئ بالماء ويتغير لونه نسبيا، يمكننا أن نضغطه بأيدينا ونخفيه في مساحات صغيرة وضيقه، ...... وهكذا.
نبدأ سويا في حصر أكبر قدر من المعلومات، ثم يبدأ والدنا في إعطائنا خيارات تحمل أسماء بعض المواد التي نعرفها، فيسألنا:
هل يمكن أن يكون قطعة خشب، حيث أن لونها أصفر وتتغير بوضعها في الماء؟
فنرفض الجواب لأن الخشب لا يمكن تمزيقه باليد، كما أن الخشب حجمه ثابت لا يمكن أن نضغطه بأيدينا.
فيسألنا: هل يمكن أن يكون نوع من أنواع الورق لونه أصفر؟
نرفض الإجابة ونبدي أسبابنا.
وهكذا حتى يضطر لإعطائنا الخيار الصحيح، ونبدأ في تدوين كل المعلومات التي عرفناها عن الإسفنج في دفاترنا، وهكذا
رغم طول الطريقة إلا أنني لا أعتقد أني قد نسيت يوما الإسفنج، أو قرع العسل، أو الزبدة، أو شكل حيوان الراكون أو الفهد أو الدولفين وسمك القرش!!
أيضا عندما كنا في المرحلة الإبتدائية كان يفعل ذلك معنا في بعض الدروس، حيث كان يخبرنا بعنوان الدرس فقط، ويطلب منا التفكير في نوع المعلومات التي قد يحملها هذا العنوان:
مثلا درس بعنوان "شرارة والسلسلة" - كان هذا الدرس أحد دروس القراءة المقررة عليّ في الصف الثالث الإبتدائي -
أبدأ في تخيل المحتوى:
سيكون هناك ولد يسمى شرارة، أعتقد أنه شرير لذلك تم تسميته شرارة، الدرس سيحكي عن مشكلة حدثت له بسبب سلسلة، ربما يحب أن يرتدي سلسلة في رقبته ووالده لا يحب ذلك ويخبره أن الأولاد لا يصح لهم ذلك، .............................إلخ.
بالتأكيد ستكون هناك معلومات صحيحة وأخرى خاطئة، وبعد الإطلاع على الدرس سيتبين لنا ذلك!
أذكر أن مثل هذه الدروس التي تم شرحها لي بتلك الطريقة - وهي قليلة في حقيقة الأمر - كانت مستمرة معي لدرجة أني أتذكر هذا الدرس الذي شُرح لي منذ ما يقرب من عشرين عاما!!!!
لماذا لا نطبق هذه الطريقة مع طلابنا، ولماذا لا نحاول نحن تطبيق الفكرة ذاتها؟!
غالبا ما نتعلم القوانين ثم نتعرف على طريقة إثباتها، لماذا لا نبدأ التعلم بطريقة عكسية، نحضر القوانين الأساسية ونسعى لإكتشاف القوانين الفرعية واستنتاجها، بالتأكيد يمكن للمعلمون ومن هم أكبر سنا مساعدتنا على ذلك وتوجيهنا، وهذا هو دورهم الأساسي من وجهة نظر من يتبنون النظرية البنائية.
ربما أبرز ما يلفت الانتباه في هذه النظرية هو بدايتها من نقطة النهاية بالنسبة لأصحاب النظرية السلوكية، ففي الوقت الذي يعتبر فيه أصحاب النظرية السلوكية أن التعلم ينتهي بوصول المعلومة لذهن المتعلم، فإن أصحاب النظرية البنائية يعتقدون أن في تلك المرحلة التعلم الحقيقي لم يبدأ بعد!!
في رأيكم؛ ما هي أهم إيجابيات وسلبيات هذه النظرية، وما هي طرق تطويرها؟
وهل حفظ المعلومة وإتقانها يصنع معرفة حقيقية في ذهن المتعلم؟!
التعليقات