يتصف الحيوان ببساطة حاجاته في حدود ما هو ضروري، في هذا الصدد يقول البعض إن الإنسان في "حالة الطبيعة" كان حُراً، لكون حاجاته المادية بسيطة ومحددة، لتوضيح هذه المسألة وبيانها يقول هيغل إن: "الاقتصار على الحاجات المادية (…) هو تلك الحالة التي ينغمس فيها الروحي داخل ما هو موضوعي، وبالتالي هي حالة الوحشية واللاحرية، في حين أن الحرية ذاتها لا توجد إلا في انعكاس الروح على نفسها [أي: الوعي بالذات]، وفي تمايزها عن الطبيعة". ويضيف هيغل أن الحاجات البشرية "تنقسم الطرق المختلفة إلى إشباعها وتتضاعف، وهكذا تصبح بدورها غايات قريبة وحاجات مجردة، وهذا التعدد يسير إلى ما لا نهاية، وإذا ما أضفناها ككل لوجد أنها تصفية أي فرز للحاجات المتعددة والحكم بمدى ملاءمة [ملائمة] الوسيلة لغاياتها". وهذا التنوع والتعدد في الحاجات سيقودنا إلى عملية التجريد؛ أي عندما تصبح الحاجات مجردة من حيث الكيف، ويصبح لها وجود من أجل الآخرين، ومنه سوف تصبح حاجات اجتماعية "تمثل همزة الوصل بين الحاجات الطبيعية أو المباشرة، والحاجات الذهنية التي تظهرها الأفكار". حيث إن الغلبة للحاجات التي يظهرها الفكر بسبب كليتها، والتي سوف ينتج عن طريقها الرأي الخاص، وهو أحد مظاهر التحرر حسب هيغل.
إضافة إلى ذلك، يقول هيغل إن: "اللحظة الاجتماعية تصبح غاية جزئية محددة بالنسبة للوسائل في ذاتها وبالنسبة لاكتساب هذه الوسائل (…) وفضلاً عن هذا فإنها تتضمن في الحال المطالبة بالمساواة مع الآخرين(…) وكذلك المحاكاة التي هي مساواة المرء نفسه بغيره". وسينتج عن هذا أن كل مطالب الإنسان النابعة من ذاته لإشباع حاجاته، سوف تصبح سبباً في توسع الحاجات وتضاعفها، وهذا ما جعل هيغل يقول إنه: "عندما تظل جزئية الغايات هي مضمونها الأساسي فسوف يكون هذا التحرر مجرداً، وعندما تتجه الظروف الاجتماعية إلى التعدد (…) عندئذ يظهر الترف"؛ وهذا راجع إلى أن تعدد الحاجات يحصر الفرد في دائرة الحاجات، كما يقود أفراداً آخرين إلى الترف، وهو ما يرفع من نسبة الأفراد المُعوزين داخل المجتمع، وعليه سوف يزداد احتمال أن يقوم هؤلاء الأفراد بتجاوزات تصل إلى حد انتهاك حرية الآخرين وحقهم في الأمن، وهو ما يُلزم بحسب هيغل تعاملاً حازماً؛ إذ إن "الأفراد [يرتبط] بعضهم ببعض بعلاقة المصلحة الخاصة، وليس بعلاقة الحب والشفقة كما هي الحال في الأسرة"، بيد أنه لإشباع هذه الحاجات لا بد من مصدر للدخل؛ نعني به العمل الذي سيفضي إلى تقسيم المجتمع إلى عدة فئات.
العمل وتقسيم المجتمع
يعمل الإنسان ليستطيع الحصول على وسائل تمكنه من بلوغ حاجاته وتحقيقها حسب ما يناسبه، وسوف ينعكس هذا على المواد الطبيعية التي بدورها سوف تتكيف مع هذه الأنواع من العمل، فضلاً عن ذلك يوضح هيغل أن كل ما يستهلكه الإنسان يرجع إلى مجهوده نفسه؛ أي إن دائرة العمل بتنوع عملياتها هي مركز عملية الإشباع هذه. وعند الحديث عن تطور دائرة العمل بوصفها حاضنة للإنسان العامل، فإنّ تطورها يساهم مباشرة في تربية الإنسان بحد ذاته، وهذا ما صنفه هيغل في نوعين من التربية: النوع الأول هو "التربية النظرية"، وهي "تربية الذهن" حسب هيغل، وتعتمد في تطورها على "تعدد الأفكار والوقائع والمواقف التي تثير الاهتمام (…) بل أيضاً على مرونة العقل وسرعة السلوك، وقدرته على الانتقال من فكرة إلى أخرى"، أما النوع الثاني فيتعلق "بالتربية العملية"؛ إذ تعتمد من جهة على عادة الانشغال واستمتاع الفرد وتكيفه الدقيق مع النشاط الذي يقوم به، وتستند إلى النظام ككل في خلق جو مناسب يرتفع إلى مستوى الكلية والموضوعية من جهة أخرى.
بيد أن ما يميز العمل حسب هيغل هو صفة "التجريد" التي تؤدي إلى تنوع في الحاجات ومن ثم تنوع العمل وإتاحة مجالات جديدة فيه، وفي الوقت نفسه تطور هذا الأخير في منظومة أقل تعقيداً مما يضيف مهارات جديدة وتخصصات فريدة توسع من دائرة الاختيار عند الإنسان، وباختلاف المهارات بين الأفراد سوف يؤدي ذلك إلى الاعتماد المتبادل "فكل فرد على التحقيق يشتغل من أجل الجميع من غير أن يعلم ذلك، وهو يرى أن فرديته هي الأهم". غير أن "تجريد إنتاج شخص ما يجعل العمل آلياً أكثر فأكثر حتى يتوارى الإنسان في النهاية لتحل محله الآلة".
من جهة أخرى، فإن "الإسهام في العمل بالمجتمع مشروط إما بما يقدمه الفرد من ثروة خاصة (رأس مال)، وإما بما يقدمه من ملكات ومواهب"، ويؤكد هيغل أن هذه المواهب تعتمد على ظروف عرضية تحكمها في الطبيعة، سواء جسمية أو ذهنية، مما يجعلها متفاوتة بين الأفراد، ومختلفة ضمن دائرة الجزئية التي تحتفظ في لُبِّها ببقايا حالة الطبيعة، هذا سوف يدفع البعض إلى طلب المساواة، لكن هيغل لا يوافقهم الرأي، بل يصفه بالمطلب الأحمق، لأن المساواة بين الناس لم تكن في حالة الطبيعة، ولن تكون أيضاً في المجتمع المدني؛ لأن "المجتمع المدني لا يلغي هذه المساواة الطبيعية، وإنما يثبتها من جانب الروح، ويضيف إليها اللامساواة في المهارة ومصادر الثروة".
والحال أن تقسيم العمل يؤدي إلى ظهور عدة فئات في المجتمع على أساس الفكرة الشاملة، إذ إن "الأفراد الذين يكرسون أنفسهم لإنتاج الأشياء الضرورية لإشباع كل مجموعة من الحاجات يشكلون فئة معينة أو طبقة خاصة"، وهذه الفئات قسمها هيغل إلى ثلاث: أولها، فئة الفلاحين التي تعتمد على الأرض، حيث تتخذ هذه الأخيرة مكاناً مركزياً في حياة هذه الفئة الاجتماعية، ولظروف العمل الزراعي نجد أن هذه الفئة تتميز بنواة أسرية صلبة مبنية على الثقة، فالزراعة كما قيل: "البداية الأصلية والأساس الحقيقي للدول(…) جنباً إلى جنب مع الزواج"؛ ذلك لأن هيغل يجعل ظهور الملكية قريناً بمبدأ الزراعة. أما في حديثه عن البدو الرُّحَّل، "المتوحشين" حسب قوله، فقد ذكر عدداً من صفاتهم التي تتضمن المعقولية، وذلك بسبب ضمان إشباع حاجاتهم، لكن سوف تشهد هذه الطبقة تعديلات مهمة، لأن الزمن مستمر في التقدم، بيد أن هيغل أكد أنها مجرد تعديلات خارجية. والفئة الثانية، فئة الصناع والتجار وتستند استناداً مباشراً إلى العمل الذاتي للأفراد وعنشاطهم الخاص، ويقسمها هيغل داخلياً إلى ثلاث فئات:
الحرف اليدوية، تتحدد مهمتها في العمل من أجل إشباع الحاجات الفردية حسب الطلب، وفي قوالب متميزة.
المصنع، وهو نظام أوسع وأكثر تجريداً، ينفذ مهامه بسرعة وإتقان، وإن كانت الحاجات ذات مطلب كلي.
التجارة، تعتمد أساساً على العملة النقدية في عملية تبادل السلع بين الأفراد.
أما الفئة الثالثة، فهي الخدمات الذاتية، "وهذه الطبقة تنشد في عملها تحقيق المصالح الكلية للمجتمع والدولة، وهي الطبقة الحاكمة التي تعتمد على مبدأ العقل"، وتشبع حاجاتها إما عن طريق تلقي منحة من الدولة وإما ما تملكه من ممتلكات خاصة.
غير أن ما يحدد الفئة الخاصة بكل فرد يعتمد حسب هيغل على رأي الفرد نفسه وإرادته الحرة، فضلاً عن مولده وقدرته الطبيعية، وذلك عكس ما نجده في بعض الأمثلة المختلفة؛ إذ إن نظام الطبقات المغلقة في الهند يجعل المولد معياراً أساساً في تحديد الطبقة، وفي مثال آخر نجد أن تقسيم الأفراد إلى فئات يندرج ضمن وظيفة الحكام.
رابط المقال: