في عمله تراه دائم النشاط متنقلا بين جميع الاقسام لمتابعة سير العمل و لهذا ينعته بعض زملاء العمل بدائم الحركة ، تراه ايضا حاضرا بقوة في النقاشات الفنية متحدثا و مدافعا عن عمله في تلك الاجتماعات الدورية ، أما على الجانب الآخر وبعد انتهاء فترة العمل تراه شخصا اخر منطويا داخل غرفته منكبا علي كتبه حتي ان بعض الاصدقاء من خارج العمل يرونه انطوائي لا يحب الاجتماعيات و قد ينعتونه بالكسل في بعض الأحيان.

في الحقيقة هو لا يلتفت كثيرا لتلك الاوصاف و النعوت سواء كانت بالسلب أو الإيجاب لا يجذبه المديح و لا يتأثر بالذم ، لا يأثره الجمال الملفت و لكنه ينظر الى ماوراء الظاهر يدعي أنه لا يعرف ماهية نفسه فكيف له أن يحكم علي باقي الأشياء.

في تلك الغرفة التي يسكنها و تسكن فيه تكونت لديه العديد من الأفكار و سكنت بداخله الكثير من القناعات و دارت في عقله الكثير من الأسئله ولعل أبرزها كان عن النفس و طبيعتها ، الكثير من الكتاب و الفلاسفه تحدثوا عن النفس و طبيعتها بما يتوافق مع وعيهم و ادراكهم و السبل المتاحه لديهم لاكتشاف ذلك في عصرهم و لذلك يوجد هناك الكثير من التعريفات و الأبحاث حول هذا الأمر و لكن معظمها قد نشأ من طبيعة النفس المادية و تأثرها بالعالم المادي حولها و قد يكون ذلك صحيحا من ذلك الجانب و لكن ماذا عن الجوانب الأخري المتمثله في الطبيعة الانسانية و تفاوت التأثير المادي علي نفوس البشر .

اما علي الجانب الديني فكان هو مايدور حوله جُل الفكر فهناك النفس الأماره بالسوء وهي اقل درجات النفس و تأتي بعدها بدرجة أعلي النفس اللوامه و التي ترتبط بطبيعة البشر من وقوع في الأخطاء و اعتراف بالخطأ و الندم عليه و يأتي بعدها في الدرجة الأعلي النفس المطمئنة و يكون تعريفها بأنها تلك النفس التي عرفت طريق الحق و استقامت عليه متقربةً الي ربها بالاعمال الصالحة.

في ذات يوم شديد البروده و بعد ان انهكه التفكير قرر الخروج وحده في ذلك الطريق و الذي يكاد يخلو من اي ضوء الا من القليل مما يأتي من بعيد مخترقا ذلك الظلام و بعد كثير من السير سمع بعض الأصوات البعيده و ما ان اقترب من المكان حتي وجدها خارجة من احد المساجد و كانت لبعض من الأشخاص ينشدون شيئا ما، قرر ان يطرق باب المسجد ليجد أمامه شخصا ذات لحية بيضاء يدعوه للدخول و المشاركة معهم دون ان يساله عن اسمه او الذي أتى به الي ذلك المسجد في ذلك الوقت المتاخر ، اجابه قائلا انا ساجلس هنا و اكتفي بسماع ماتنشدون قال له الرجل لا تخف فنحن لا ننتمي الي جماعات او ماشابه فقال له اذا من انتم؟ قال الرجل نحن اناس لا نعرف عن بعضنا الا الاسماء و لكن يجمعنا حب الله و رسوله و ما نجتمع الا لنقرأ القرءان او نقوم بالانشاد الديني كما ترى،قال له حسنا ساجلس في ذلك الجانب استمع لما تنشدون لعلني اجد ضالتي.

عندما جلس وحيدا عند تلك الزاوية من المسجد كانوا ينشدون قصيدة البردة للبوصيري و منها جاءت تلك الأبيات:

والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على

حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم

فاصرفْ هواها وحاذرْ أنْ تُوَلِّيَهُ

إنَّ الهوى ما تولَّى يُصمِ أوْ يَصمِ

وَراعِها وهيَ في الأعمالِ سائِمةٌ

وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم

كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرءِ قاتِلَةً

من حيثُ لم يدرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ

الي ان وصل الي تلك الأبيات:

وخالفِ النفسَّ والشيطانَ واعصهما

وإنْ هُما مَحَّضاكَ النُّصحَ فاتهم

وَلا تُطِعْ منهما خَصْمًا وَلا حَكمًَا

فأنْتَ تَعْرِفُ كيْدَ الخَصْمِ والحَكمِ

أسْتَغْفِرُ الله مِنْ قَوْلٍ بِلاَ عَمَلٍ

لقد نسبتُ به نسلًا لذي عُقُمِ

شرد في التفكير متسائلا في نفسه هل هذه صدفه ام ان القدر ساقه الى هنا في ذلك الوقت لسماع تلك الأبيات من اولئك الاشخاص الذين لا يعرفهم ولا يعرفوه ، جاء في تفكيره ان النفس التي بين جنبيه هي أشد أعدائه اذا ما استسلمت لشهوات الحياه دون رادع او قيم تقيدها و تهديها الى الطريق السليم ، قاطعه ذلك الرجل قائلا لقد انتهينا و سنغلق المسجد و لعلك تكون قد وجدت ضالتك،قال له إن الامر يحتاج الى المزيد .