“كتابك يُقرأ كأنه رواية”، هذا هو التعليق الذي يسمعه المؤرخون ذوي الشعبية عادةً. عندما يأتي ذلك على لسان قارئ غير متخصص، فهذا إطراء، إقرار بطلاقة الكتابة وبالقصة الآسرة. لو أتت نفس الكلمات على لسان مؤرخ، فتلك إهانة على أية حال. فهي تعني أنك “غير مؤتمن على حقائقك”. من هنا كان عنوان هذه المقالة حريصًا على إغضاب كل قارئ لهذه المجلة، لأنها تلمّح أن المؤرخين مضطرين للكذب. فهذا في النهاية ما يقوم به الروائيون، أليس كذلك؟ ألا يختلقون كل شيء إن لم يكونوا على دراية بالحقائق؟

عليّ أن أشرح قبل كل شيء أنّي روائي (جايمس فوريستر) ومؤرخ كذلك (آيان مورتيمر)، وأنا أكتب التاريخ للطرح العام وكمقالات أكاديمية كذلك. أما كروائي، فأنا أكذب. أكاذيب كبرى. كل كتاب الرواية التاريخية يفعلون ذلك. في حالتي، فلديّ شخصيات تاريخية مثل السير (ويليام سيسيل) و(فرانسيس والسينغام) يقولون ويفعلون ما لم يقولوه أو يفعلوه في الواقع. أنا أقتل أناسًا بوسائل تخالف ما كان وراء موتهم، وأستخدم لغة حديثة في كلامهم، وأغير أسماء الأشخاص. أنا كمؤرخ، لا أكذب. أنا أفرط في ذكر المصادر الاولية والثانوية. إلا أنني تعلمت عن التاريخ الكثير من خلال كتابة القصص الخيالية. وتلك الخبرة التعليمية هي السبب وراء توصيتي بذلك.

هناك عاملان بالتحديد يعزّزان تلك الخبرة الإيجابية. الأول هو ببساطة الطبيعة الاختبارية للغاية لـ (إعادة خلق) عالم سابق. يتطلب الخيال التاريخي منك معرفة العديد من جوانب الحياة مما لم يسبق لك التفكير فيه. كيف كان الناس يتكلمون مع أطفالهم، ويغسلون شعرهم، ويغلقون الباب، وينظفون اسنانهم ويبدلون ملابسهم قبل النوم؟ لماذا كان من الصعب التجديف أسفل جسر (لندن) عند انخفاض المد، وهل كانت الحوانيت تقدّم اللحم في (آحاد المجيء) في 1567، هل كان الأطباء يطلقون لحاهم، إلخ. ستجد فجأة أن معرفتك المثبتة بالأدلة لتلك الفترة غير كافية، فهي لا تؤهلك لوصف تفصيلي للكيفية التي يقضي بها رجل أو امرأة يومهما، ناهيك عن مجموعة متباينة من الرجال والنساء على مدار أسابيع. كل ما قرأته من أدلة عن القرن الرابع عشر لن يخبرك ببساطة بما يكفي لوصف التمشية في شارع لندني في 1359 وطَلب كأس من الجعة في أحد الحوانيت. إلى أي درجة كانت الأرضية نظيفة؟ هل كانت هناك قشور فاكهة فوق الجعة؟ هل كان البرميل محفوظًا في أحد الأقبية؟ لذلك فإن جميع الروايات التاريخية، فيما يخص محتواها التاريخي، غير مُرضية. ستأمل دائمًا في تقديم ما هو أفضل.

بناء الشخصيات اختباري بنفس الصورة. ليس على المؤرخ أبدًا أن يخلق شخصية: هو يدعها تبرز من الأدلة. هو لا يحتاج أبدًا للاحتراز من تضارب سمات الشخصية، ولا يحتاج لاختراع وسائل تؤثر بها إحدى الشخصيات على الأخرى. يكشف المؤرخون عن التفاعلات البشرية من خلال فحص الأدلة بحثًا عن كلمات وأفعال رجل ما تجاه أشخاص آخرين. خلق الشخصيات الخالية التي تتفاعل مع بعضها البعض يتجاوز مجرد تخيّل الماضي: إنه يتطلب تخيله ثم تغييره، بالتدريج وبصورة قابلة للتصديق، في خيال القارئ. من هنا تأتي صعوبة الروايات التاريخية. لا يهم ما إذا كنت تبنيها على الواقع أو تختلقها، فستظل مضطرًا لخلق عالم آخر قابل للتصديق – شيء ما يمكن للقراء تقبّله باعتباره الماضي. نظرًا لأن قراءك قد يكونوا مؤرخين آخرين، فإن الاحتيال يجب أن يكون متقنًا للغاية.

ليست تلك آخر الصعوبات: فبعد ذلك تأتي الكتابة. يفقد المؤرخون الأكاديميون عادة القدرة على الكتابة الدرامية أو الكتابة المتعاطِفة. لقد تدربوا على التخلص من ذلك. الالتزام التقليدي بأن يكونوا “موضوعيين” يعوقهم عن كتابة حكاية ملهبة للمشاعر عن معركة ما، أو حكاية رومانسية عن علاقة عاطفية. حتى لو كانت المعارك ملهبة للمشاعر بالتأكيد في الحياة الواقعية، وحتى إذا كانت العلاقات العاطفية هي مثال الرومانسية، فإن المؤرخين الأكاديميين لا يودون أن يظهروا بمظهر المتأثر بموضوعه. تعلم الباحثون بصورة مبالَغة حرفة تقطير الأدلة وصولًا لجوهرها الخالص، السائل الصافي للحقيقة الاصطناعية، وفي مؤسسة تعليمية فهذا هو كل المطلوب. من السهل نسيان أن جوهر الأشياء ليس ما يهتم به اغلب الناس بل العالم الأوسع الذي خلق الدليل في أول الأمر.

يظل الشكل والمحتوى على طرفي نقيض في التاريخ الأكاديمي. في السيرة الذاتية، والقصص الخيالية، وصناعة الأفلام، والدراما والشعر فإنهما يتوافقان بصورة طبيعية، ويعتبران مكملان لبعضهما البعض. ولكن لم لا يُكتب التاريخ الأكاديمي بصورة درامية مما يقرب المسافة بين الباحثين وبين عشرات الآلاف من القراء؟ لم لا يكُتب في صيغة المضارع؟ لم لا يكتب كمذكرات يومية لشخص آخر؟ لم لا يكون ابتكاريًا؟ لم لا يكتب كسيرة ذاتية لشخص ما كما لو كنت أنت ذلك الشخص، كما فعل بيتر آكرويد في كتابته لسيرة أوسكار وايلد؟ لا يسعني إلا أن أشعر أن بعضًا من خبرائنا بمعركة آغينكورت (Agincourt) لو كتبوا “سيرة ذاتية” لهنري الخامس فسيسألون أنفسهم أسئلة في غاية الصعوبة بخصوص السبب وراء ما فعله، وسيكتشفون خوفًا وصمودًا يبعدان كثيرًا عن الصورة الحالية للرجل.

السبب الثاني وراء قولي أن كتابة القصص الخيالية خبرة تعليمية كبرى هو أكثر فلسفية. جميع الصعوبات المذكورة أعلاه تضاعف بالفعل من المعرفة بالثغرات – الافتقار إلى المعرفة بجوانب الحياة اليومية، والافتقار للشكل الأدبي في الكتابة التاريخية الأكاديمية، والفشل في التعرف على وجهات النظر البديلة. الأكثر عمقًا هو الإدراك أن التاريخ لا يعني بالماضي بصفة رئيسية. هو يعني بالطبيعة البشرية. ما يجعله تاريخيًا أنه يفحص الطبيعة البشرية من منظور عصر آخر.

للأمانة، لم أدرك ذلك من خلال كتابة رواية ما. كان ذلك بعد كتابة روايتين وأثناء كتابة “دليل المسافر عبر الزمن إلى إنجلترا الإليزابيثية The Time Traveller’s Guide to Elizabethan England”. يصف ذلك الأخير ما يفترض أن تجده إن كنت تستطيع بالفعل العودة عبر الزمن إلى أواخر القرن السادس عشر. في مرحلة ما كنت ألاقي صعوبة بالغة في المضي قدمًا بصورة تستعصي على التفسير، وذلك رغم حبي لذلك العصر، ورغم وفرة ما لدي من مواد كمصادر، ورغم تخطيطي المسبق لكل شيء. ما تبينته أنه خلال محاولتي تكرار النسق الذي استخدمته في كتابي “دليل المسافر عبر الزمن للعصور الوسطى medieval Time Traveller’s Guide” (دليل مشابه للقرن الرابع عشر)، فقد كنت معرضًا دائمًا لخطر تكرار ما سبق لي فعله. العديد من الملاحظات التي شعرت بوجوب ذكرها بخصوص التعليم، وتقدم العمر أو النظافة كانت تكرارات لأشياء سبق لي قولها في الكتاب السابق. ما عناه ذلك هو أن ملاحظاتي لم تنشأ من الفترة التي كنت أدرسها، بل من ردود فعل شبيهة لي تجاه تلك المعايير المختلفة السابق ذكرها. ما كنت أكتب عنه كان فهمي للناس في كل العصور، وليس في قرن بعينه.

أدى ذلك إلى إدراك آخر، وهو أن ذلك هو ما يقوم به كتاب الرواية التاريخية الجيدون. دون أن يدركوا ذلك في الغالب، فسيختارون فترة تاريخية ليبرزوا أحد جوانب الطبيعة البشرية. في حالتي، أردت قص روايتي في القرن السادس عشر لأنني أردت أن أكتب عن الولاء والخيانة. كان لولاء المرء لقرينه، ولدولته ولإيمانه صدىً ضخمًا في سياق القرن السادس عشر، بما يفوق كثيرًا ما يجري في عالم اليوم هادئ البال. لقد استخدمت المسرح التاريخي لستينيات القرن السادس عشر لتضخيم ما أردت قوله عن البشر.

يسمح لنا التاريخ بإبصار الطبيعة البشرية بصورة أعمق. إنه يصف بصورة جيدة للغاية عالم اليوم، بحروبه، وطمعه التجاري، وإنسانيته، وشجاعته، وخوفه، إلخ، ولكن عندما تبدأ في وضع الماضي نقيضًا للحاضر تصير على دراية أن البشرية ذات عمق أكبر بكثير مما يبدو من خلال معرفة ما هو هنا والآن. تصير “نون الجماعة” غير قاصرة عليّ أنا وأنت بل تصير شيئًا عمره مئات، بل وآلاف السنين. في أزمنة ما كنا نعامل فيها جيراننا بتوجس هائل، ولكننا دافعنا عن بعضنا البعض مرارًا أمام الأعداء. لقد نجونا من أوبئة متكررة قضت على مساحات شاسعة من جماعتنا، وأحرقنا أناسًا أحياء لما يؤمنون به. الخيانة، والولاء، والحب والخيانة – كل الحياة البشرية ها هنا، كما يقولون، ولكنها مضخمة بما يتجاوز ما قد نمر به في عالمنا الحديث.

لذلك يجب على المؤرخين كتابة القصص الخيالية التاريخية. فهي تخبرنا بمدى ضآلة ما نعرفه في واقع الأمر عن تفصيلات الماضي، وتدمر الاعتداد بالتخصصية. إنها تحط من قدر أكثر الباحثين خبرة. إنها تتطلب أن تفكر بعمق في شأن الشخصية الإنسانية، وكيف تتكون، وكيف يتآلف البشر. ولكن الأكثر من ذلك هو أنها تكشف لك عن نوع مختلف من الحقيقة يتجاوز مقاييس الحقائق والتواريخ: حقائق بخصوص الطبيعة البشرية، بما فيها من أزلية، أو تغيّر بطيء للغاية على الأقل، وتجعلك تفكر أن تلك الحقائق، رغم أنها غير قابلة للبرهنة، هي على الأرجح أهم الاستنتاجات التاريخية على الإطلاق، لأنها تعكس ماهيتنا، وما نستطيع القيام به، كأفراد وكمجتمع كذلك.