سحق الوجود الإنساني وتحويله إلى مجرد أرقام وأشياء تتلاشى قيمتها بالاستعمال القاتم والاستغلال المتعدد، هي الحقيقة السائدة في العالم بشكل عام، ولكن تأخذ طابعها الأكثر وضوحا في عالمنا التابع، الذي يُعاني من مشاكل اقتصادية تجعل الحياة الاجتماعية في أزمة سيكولوجية، تجعل الشخص مُتعثرا في آنيته ولا يستطع أن يُحدد قيمته بين الأشياء والأرقام المنتشرة في محيطه.
إن السحق المتكرر للإنسانية بسياسة السيطرة والرقابة والاضطهاد اللاإنساني واللاعقلاني يُولد في نفسية الشعب المقهور شحنات سالبة ترغب في التحقق في الواقع القائم، من أجل توجيه الانتباه إلى التشوه الذي يتسم به هذا الواقع، ولكن الإشكالية المثيرة هنا هي؛ كيف يمكن لهاته الشحنات السالبة أن تتحقق في هذا العالم لنفي التشوه الذي يُعانيه.
إن الصعوبة في التحقق التي تُعاني منها الشحنات السالبة في نفسية الشعب المقهورة، ناتجة عن ندره في الوسائل الكفيلة والمتاحة لهذا التحقق، فالإمكانية للحصول على وسيط بين نفسية الشعب وواقعه لتحقيق ذلك النفي، تبقى إمكانية شبه مستحيلة، مادام أن العوائق التي يضعها أمامها الواقع الاضطهادي والقمعي أقوى من أن تدع أي نفي يتحقق في الوجود المُعاش.
لا يمكن لحالة أن تظل كما هي حتى ولو اعتقد العقل أنها أبدية الثبات، فالتغيُّر هو الثابت الوحيدة في الطبيعة حسب تقرير هرقليطس، وهذه حقيقة كونية لا يمكن التغاضي عنها، لهذا لا يمكن أن يظل الشعب المقهور بدون تعبير عن حالته الاضطهادية التي يُعاني منها، وتبقى وسيلة التعبير هي الإشكال القائم في طريق هذا الشعب. ومن السذاجة أن نعتقد بأن التعبير لا قيمة له في نفي الوضع القائم على الاضطهاد، بل إن التعبير هو الشرط الثاني بعد وعي الوضع، لبداية أي مشروع يسعى لنفي الواقع الاضطهادي.
يأخذ التعبير طابعه الصادق دائما من العفوية الانفعالية، الـتي تُعبِّر عن النفسية الناتجة عن اضطهاد مُقيت لجسد الشعب سواء في حياته الاجتماعية أو الاقتصادية، وكلما كانت النفسية متأزم كلما كان التعبير العفوي أكثر تطرفا في محاكمته للواقع الاضطهادي القائم. إذن مادامت إمكانية التعبير قائمة، فإن تحققه سيحتاج إلى وسيلة من أجل ذلك، ولأن الوسائل التعبيرية الكلاسيكية قد تم الاستحواذ عليها ثقافيا من طرف طبقة ثقافية متعالية أو من طرف طبقة اقتصادية متعجرفة، فإن الشعب بلغته البسيطة يبحث عن الوسائل الأكثر تقربا منه لتحقيق التعبير بعفوية وانفعالية عن وضعيته النفسية التي أنتجها الواقع الاضطهادي.
إنني أرى بأن الوسائل التعبيرية أو الخطابات الأكثر اقترانا بالشعب المقهور هي ثلاثة أنواع عفوية وأكثر ارتباطا باللغة العامية التي يفهمها كل أفراد هذا الشعب خاصة شبابه الباحث عن حل للأزمة القائمة أمام مستقبلهم، وإن كان الشيوخ قد وصلوا إلى عهد تَقبلوا فيه الحالة كما هي. توجد إذاً ثلاثة خطابات مشاغبة تسعى إلى إزعاج الوضع القائم، وهي خطابة تتخذ طابعا شعبيا أكثر خشونة وأكثر صرامة في التعبير ولا تجد أي عائق أمام تحققها كمشروع تعبيري، نظرا لقوة انفعالها المغامراتي.
فن الراب
يتموضع فن الرَّاب على عرش الخطابات المشاغبة، وتتمحور هويته كفن ناقد حول الكلمات الدالة والمباشرة التي تتحدث عن الواقع المزري للطبقة المُضطَهدة، وهذا خطاب جد قوي يأخذ قوته من شخصية الفنان الذي يستعمله كتعبير عن نفسيته المُضطرِبة والتي تشمل بدورها نفسية عامة الناس من نفس الكيان المُضطهَد. إن فن الراب هو فن غير نظامي وغير مدرسي، فهو لا يحتاج إلى تعلم نسق الموسيقى أو إلى التدرب على تطوير صوت الحنجرة. إنه فن عفوي يعتمد على الكلمات الناقدة في بناء نسقه، ولا يهم أبدا كيف يُؤدى هذا الفن، وإنما المهم هو أن يكون إلقاء الكلمات حماسيا وانفعاليا وذا انسجام مع الموسيقى التي تسير بنفس الرتابة وبكل بساطة على طول الأغنية.
من هذه الخصوصية الحرة والبسيطة، التي يتميز بها فن الراب الذي يُمكن تسجيل أغانيه بأية وسيلة تسجيلية متوفرة، عكس باقي الفنون التي تحتاج إلى الآلات الموسيقية وإلى التسجيل المحترف، فإن فن الراب يلقى انتشارا بين صفوف الطبقة الشعبية الفقيرة مما يجعله الناطق بلسان حالها. لم يكن الرّاب ذا بُعد تجاري، بل كان عفويا تطوعيا، كالفروسية في العهد الأرستقراطي، فلم تكن غايته ربحية، وإنما كان يسعى لنيل الاعتراف بشجاعته، وأي فنان في فن الراب يجد شخصيته في المجازفة التي يتَّبعها في مواجهة وضع قمعي يُهدد أي تعبير بالإفناء.
إن هذه الخصوصية المغامراتية التي يتميز بها الراب، جعل منه فنا مزعجا للوضع القائم القمعي، مما جعل هذا الأخير يبحث عن طريقة لتذويب هذا الفن في الواقع الحاضر للسير حسب قوانييه الخاصة والزجرية، وأهم طريقة لفعل ذلك هو تحويل غاية الرَّاب من الغاية الأرستقراطية ذات الطابع الفروسي إلى الغاية البرجوازية ذات الطابع الربحي. ونتيجة لهذا تَكَوَّن لدينا راب تجاري. إلا أن هذا لم يقضي على الراب كفن ناقد وإن تقلصت قوته التدميرية للوضع القائم. وكنتيجة لهذا، انقسم الراب على نفسه، فظهر "راب البّلاطُو" المتأقلم إعلاميا مع الوضع القائم، و"راب الشارع" المُعبِّر عن الحالة المتأزم التي يعيشها شعب مُضطهد.
الألتراس
بعد الرَّاب، تأتي الألتراس كخطاب شعبي يسعى لتوضيح حالة يعيشها شعب، فحتى ولو كان مشروعها هو تشجيع فريقها أثناء مباراة كرة القدم، إلا أنها تمزج الكلمات الحاقدة على الوضع القائم في أشعارها الحماسية داخل مدرجات الملعب. وهي عكس الراب لا تأخذ قوتها من شخصية الفنان أو المنضوين تحتها، وإنما تمتص عنفوانها من كمية أفرادها وانسجامهم فيما بينهم وتطرفهم في حب فريقهم. ومع ذلك فإنها شبيهة بالراب، لأنها لا تسعى لغاية ربحية وإنما غايتها تكمن في دورها والتزامها الإيمانية بتشجيع فريقها، وهذا ما يجعلها تتعالى عن الواقع المُعاش بعيدا عن أي اضطراري اقتصادي أو اجتماعي. فالتزامها الغريب يجعل أي شخص منضوٍ تحتها يُغامر بحياته من أجل السير على هدى المشروع المرسوم لها، وعلى هذا الأساس تُزْعِج الوضع الاضطهادي القائم.
وبالطبع، فإن هذا الخطاب لن يكون بعيدا عن ضربات القمع، الرامي إلى إضعافه أو القضاء عليه، إلا أن الألتراس أقوى بقوتها الكمية التي تتمأسس على الجانب الاقتصادي أثناء شراء أفرادها للتذاكر. فلا يمكن بحال أن يتم منع أفراد بالمئات يشترون التذاكر ويُساهمون في تدعيم إدارة الملعب ماليا. ولأن الألتراس ليست جمعية قانونية فهي لا تعطي أهمية لأية ضوابط نظامية غير التي تحكم كيانها من الداخل وهذا ما يجعلها أكثر إزعاجا خاصة وأنها تستقطب شبابا ساخطا على الوضع وله وعي بالوضعية المتأزمة، ولأنه ملتزم بفكرة الألتراس فإنه يتبنى مشروعها ويندمج في خطابها. وحتى ولو حاول الوضع القائم إلغاء هذا الاندماج فإنه لن يستطيع القضاء على فكرة الألتراس.
فن الغرافيتي
أما آخر خطاب في موضوعنا فهو الفن الغرافيتي، الذي يتألق بفنه الصارخ الإبداعي على جدران الشوارع، فهو يعتمد على الرسم كتعبير عن نفسية شخص مجهول وضع إبداعه بالليل على جدار دون أن يلمحه أحد، ثم هرب تاركا أثره المُعبِّر عن حالة طبقة مقهورة. وبالمثل، وكالخطابين المذكورين آنفا، فإن الفنان الغرافيتي ليس له هدف ربحي، وإنما يسعى لغاية نيل الإعجاب على رسمته أو كتابته التي وضع عليها إمضاءه الغامض. فهو أثناء الليل مُبدع مُضطرب ومُغامر يحاول خلق تعبير مزعج للوضع القائم دون أن يعرفه أحد، بينما في النهار يكون جزءا من المشاهدين مُستمعا لآرائهم حول إبداعه دون أن يُشير لملكيته للإبداع، كما يطَّلع على ردة فعل الوضع القمعي عن الرسمة، فتكون النشوة حين يقوم هذا الوضع بمسح الرسمة أو إخفائها أو تشويهها.
وفي الأخير، نخرج بنتيجة وهي أن الخطابات المذكورة هنا هي خطابات شعبية لها التزام في التعبير عن وضع قمعي اضطهادي دون مقابل، وهذا ما يجعلها تتعالى عن العالم التجاري الربحي الأناني، متسامية عنه إلى عالم تعبيري يحمل في جوفه قوة نافية للواقع المتأزم. وهذا ما يجعلها أكثر إزعاجا لكل مستفيد من الحالة الراهنة.