غالبا ما يشار الى الدين على انه مخلص البشرية ، و روحها الحضارية ، فكل الأديان تدعي انها جاءت لتحرر الانسان و تقيم العدل و تحقق مصالح الشعوب و تنشر السلام... غير أن المتنورين يقولون بأن الدين افيون الشعوب، جاء ليخضع الناس للذل و الهوان و الجهل و التخلف و المصير المجهول ، و هو يتنافى مع الحضارة، و التقدم، و إرادة الشعوب او في احسن الأحوال هو غير قادر على مواكبة هذه الأمور. .


هذا الحكم لم يأتي جزافا و ليس تعسفيا بل على اساس مفردات واقعية و ارقام علمية و تجارب تاريخية فالواقع يكشف لنا عن صورة مناقضة لما هو مخطوط في الكتب المقدسة... فعبر التاريخ كان الجبابرة يستخدمون كهنة الدين في وأد النهضة و رد الانتقاد و اخماد ثائرة الغضب و الاحتجاج من خلال تبرير الموقف بإنتاج مواعظ كهذه ( ان كل ما حصل قد حصل بمشيئة الله، انه ابتلاء لصبرنا و ايماننا) و حتى يومنا هذا يتم استغلال الدين في تكريس الاستبداد والقهر و الغباء تحت عناوين تجنب الفتنة و الحفاظ على الأمن، فغالبية الخطاب الديني الرسمي مفصل تفصيلا يتناسب ويتناغم فقط مع السنفونية التي تعزفها السلطة التي فصلته على مقاسها، لتخدع به الأبصار، و تدجن به الشعوب، و تصور لها الاستبداد قَدراََ مُقَدرا من الحكيم القدير! فقد اشبعنا خطيب الجمعة الماضية بمواعظ من قبيل : (( ان الله هو من يتحكم بالأسعار فهو الذي يخفضها و يرفعها))...(( لا تشتكوا من الحرمان فإنه ابتلاء من ربكم )) ...(( ان الإضراب بوابة نحو الفتنة و الخراب...احفضوا بلدكم ))و هكذا يُخمدون احتاجاج الشعب حتى و لو كان ذلك عبر التظاهر والمعارضة السلمية المكفولة شرعا ودستورا.


رغم كل هذا فإن الحكم الذي اطلقه المتنورون غير صائب تماما في نظر الدكتورعلي شريعتي، ذلك ان اصحابه وقعوا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه انصار الأديان ، و ذلك في عدم الفرز بين الدينين ، دين السلطان و دين الله ، فالكلام الذي قاله الملحدون من ان الدين افيون الشعوب جاء ليروض الناس على الحرمان و الشقاء و غلاء الاسعار ، و يقنعهم بأن كل شيئ يحدث هو من عند الله و بمشيئته و ان كل محاولة لتغيير هذا الوضع هي مخالفة لارادة الرب و مشيئته وعصيان لامره هو كلام صحيح و لا يمكن انكاره، لأنهم استنبطوا ذلك من التاريخ و.الواقع، لكن اي دين هذا !؟ انه دين السلطان و ليس دين الله الذي جاء به الأنبياء!

ان الدين الالهي هو الدين الذي ظل يواجه دين الطاغوت و الملأ و المترفين، و يرسل الأنبياء ابابيل على شكل نهضة و ثورة و تمرد على الحُاكم الظالمين، مثلما بُعث موسى و هارون الى فرعون ، و بينما يداهن دين السلطان السلاطين ، فان الدين الإلهي يحرض المؤمنين على اقامة العدل في الأرض و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و يكره العجز والاستسلام للظالم ، يقول عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله يلوم على العجز..." و من جهة اخرى فقد كان دين السلطان آلة في يد الأغنياء و المترفين ، بينما كان انبياء الله رعاة كادحين ، يعيشون بين الفقراء و يساعدون المحتاجين .

لقد وقع في هذا الخطأ المناهضون للأديان في اوروبا ماجعلهم يفندون الدين كليا ، و السبب عدم قدرتهم على الفرز بين شكلين من الدين مع شدة الاختلاف و التناقض و التخاصم الدائر بينهما على الدوام , و حتى نبرز هذا الاختلاف الصريح عندنا ، سنتناول مثالين متناقضين :

يقول احد علماء المسلمين "اسمع وأطع في أي حال من الأحوال، حتى في الأثرة؛ يعني إذا استأثر ولاة الأمور على الشعب، فعليهم أيضاً السمع والطاعة في غير معصية الله عزَّ وجلَّ.فلو أن ولاة الأمور سكنوا القصور الفخمة، ركبوا السيارات المريحة، ولبسوا أحسن الثياب، وتزوجوا وصار عندهم الإماء، وتنعموا في الدنيا أكبر تنعم، والناس سواهم في بؤس وشقاء وجوع، فعليهم السمع والطاعة؛ لأننا لنا شيء والولاة لهم شيء آخر.فنحن علينا السمع والطاعة، وعلى الولاة النصح لنا، وأن يسيروا بنا على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا نقول إذا استأثروا علينا وكانت لهم القصور الفخمة، والسيارات المريحة، والثياب الجميلة، وما أشبه ذلك، لا نقول: والله لا يمكن أن نسمع وهم في قصورهم وسياراتهم ونحن في بؤس وحاجة، والواحد منا لا يجد السكن وما أشبه ذلك. هذا حرامٌ علينا، يجب أن نسمع ونطيع حتى في حال الأثرة."

بينما يناقضه عالم آخر حسن فكره و ايمانه فيقول :“كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس ٬ أو ترضيهم بالدون من المعيشة ٬ أو تقنعهم بالهون فى الحياة ٬ أو تصبرهم على قبول البخس ٬والرضا بالدنية ٬ فهى دعوة فاجرة ٬ يراد بها التمكين للظلم الاجتماعى ٬ وإرهاق الجماهيرالكادحة فى خدمة فرد أو أفراد. وهى قبل ذلك كله كذب على الإسلام ٬ وافتراء على الله ."


يغذي دين السلطان الناس برؤية تبريرية ، حتى يسلبهم كل شعور بالمسؤولية و يجمد فيهم روح المبادرة ، من أجل أن يكرس الوضع الراهن و يثبته.

اما دين الله فهو دين اصلاحي ، يغذي اتباعه برؤية نقدية حيال كل ما يحيط يهم ، و يكسبهم شعورا بالمسؤولية تجاه الوضع القائم يجعلهم يفكرون في تغيره فهو لا يقر للوضع القائم تبريرا دينيا و لا يؤمن بمدأ الرضوخ للأمر الواقع او اتخاذ موقف اللامبالاة حيال ما يحيط يه .

*في الأخير علينا ان نعطي الحق للمفكري السابقين و من تبعهم من العلمانيين و الملحدين حين يرددون ان ( الدين افيون الشعوب) لأن هؤلاء اصدروا حكمهم بناءا على الوقائع التي لمسوها من خلال النمط القائم من الدين، حيث لم يكونو قادرين على ادراك نمط الآخر من الدين يختلف اختلتفا جوهريا عن النمط الذي اصطدمو به ، لذى فمن واجبنا نحن المتدينون ان نبرز دين الله الطاهر العادل ونتبرئ من دين السلطان المستيد الظالم.