كما يقول المثل "ليس كل ما يلمع ذهبًا" ففي زمن الذأب او عصر المعلومات والتسابق الرقمية، قد تبدو بعض الحقائق براقة وجذابة، الا ان في الغالب خلفها تكمن مزارع الحسابات الرقمية، تلك الشبكات المظلمة التي تُستخدم لتضخيم المحتوى وتزييف الواقع. حيث تعكس هذه الظاهرة حجم التحديات التي تواجه المجتمعات اليوم، اذ تتلاشى الحدود بين الحقيقة والوهم، حتى ان يصبح من الصعب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع.

ظهرت مزارع الحسابات الرقمية في بداية الألفية الجديدة مع تطور الإنترنت وازدهار وسائل التواصل الاجتماعي. في البداية، كانت هذه المزارع تُستخدم بشكل أساسي في مجال تعدين العملات الرقمية، حيث استغل المستخدمون قوة الحوسبة لإجراء العمليات الرياضية المعقدة اللازمة لإنشاء العملات مثل البيتكوين. ففي عام 2009، تم إطلاق البيتكوين، كأول عملة رقمية تعتمد على تقنية البلوك تشين. مع تزايد شعبيتها، بدأ عدد من الأفراد والشركات في إنشاء مزارع تعدين تستخدم مجموعة من الأجهزة المتخصصة مثل وحدات معالجة الرسوميات (GPU) لتسريع عملية التعدين. ومع مرور الوقت، بدأ استخدام مزارع الحسابات الرقمية يتجاوز مجرد تعدين العملات. في الفترة ما بين 2014 و2016، بدأ البعض في استخدام هذه المزارع لأغراض أخرى، مثل نشر المعلومات المضللة والدعاية السياسية، اذ تعتبر مزارع الحسابات الرقمية أدوات متطورة تستخدم شبكات من الحسابات الوهمية أو الأجهزة الميكانيكية لنشر معلومات مضللة وبث دعاية منظمة مقصودة. ومن خلال هذه المزارع، يتم تشكيل الرأي العام بشكل مصطنع، وبضغوط منطقية تُجبر انت كأسان على ان تنضم اليها بسبب المنطقية المستخدمة فيها المقصودة وإلا فأنت نشاز، فهم يعرفون جيدا علم النفس المجتمعي ويجيدون استخدامه، وهذا ما يقوض الثقة في المنصات الرقمية والمؤسسات.

تستخدم هذه المزارع تقنيات متقدمة لنشر الأخبار الكاذبة والدعاية المغرضة، حيث تستهدف قضايا معينة وتنتج محتوى مصمم بعناية للتأثير على آراء الجمهور. اذ ان هذا النوع من المعلومات يخلق انطباعات معينة ويزيد من فرص تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية محددة.

ومثال على ذلك ما استخدمت الاستخبارات الروسية من مزارع الحسابات الرقمية في الحملات الانتخابية الأمريكية عام 2016، حيث تم نشر معلومات مضللة عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على الناخبين وخلق انقسامات في المجتمع الأمريكي. كتداول تسريبات مزعومة عن محادثات بين هيلاري كلينتون ومساعديها، اذ زُعم أنها تعبر عن ازدراء تجاه الناخبين. هذه المعلومات تم تضخيمها بشكل كبير عبر حسابات وهمية. اذ ان هذا الأمر ساهم في تعزيز الشكوك حول نزاهة الانتخابات. وكذلك بعض الحكومات العربية استخدمت مزارع الحسابات الرقمية لقمع المعارضة وترويج الدعاية السياسية.

فعندما يتم التلاعب بالأرقام والتفاعلات، يصبح المحتوى الذي يبدو شائعًا أو مقبولًا على نطاق واسع وسيلة لتغيير قرارات الأفراد وآرائهم. اذ يتسبب ذلك في خلق آراء غير مستندة إلى حقائق، ويؤدي إلى تلاعب واضح في الرأي العام.

ومع انتشار المزارع الإلكترونية، تتآكل الثقة في وسائل الإعلام الرقمية والأنظمة عبر الإنترنت. ويصبح من الصعب على المستخدمين التمييز بين المحتوى الحقيقي والمحتوى المُصطنع، مما يؤدي إلى انعدام الثقة في المعلومات المتاحة.

كما تساهم هذه المزارع بشكل مباشر في زيادة الاستقطاب والانقسام في المجتمع. فمن خلال نشر محتوى مثير للجدل والتحريض، تعزز هذه المزارع المواقف المتطرفة وتزيد من حدة الانقسام، مما يصعب الحوار البناء بين فئات المجتمع المختلفة.

وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فيمكن استخدام مزارع الحسابات الرقمية كأداة لتقويض الاستقرار في المجتمع. من خلال العبث بالعمليات السياسية والانتخابية، مما جعلها تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن المجتمعي، اذ تؤثر على نتائج الانتخابات وتعبث بالرأي العام، مما يؤدي إلى عواقب وخيمة على مستقبل المجتمعات والدول.

وقد تتطلب مواجهة هذه التحديات استجابة جماعية من الحكومات ووسائل الإعلام والمجتمع المدني لضمان بيئة رقمية آمنة وموثوقة. فالوعي بمخاطر هذه المزارع هو الخطوة الأولى نحو حماية الرأي العام وتعزيز الثقة في المعلومات المتاحة. فمن لا يعرف الصقر يشويه، لذا علينا أن نكون واعين للمخاطر لنحمي أنفسنا ومجتمعاتنا من الأوهام التي قد تقودنا إلى المجهول.