فى عالمٍ يتسابق فيه الجميع إلى الكلام، أصبح الحديث عن المشكلات شكلاً من المشاركة الاجتماعية، لا بحثاً عن حلولٍ حقيقية. نتناول القضايا الكبرى بحماسٍ شديد، لكننا نُبقى أقدامنا على السطح. نُسمّى المشكلات، نصف أعراضها، ونكرر الشكوى نفسها، دون أن نغامر بالنزول إلى الجذور التى أنبتتها.

إن أكثر ما يعرقل وعينا الجمعى هو أننا نكتفى بوصف الأعراض ولا نقترب من الجذور. نناقش الفساد فنحصره فى سلوك الأفراد، ونتحدث عن التعليم فننتقد المناهج والحفظ دون أن نسأل: من يصنع تلك المناهج؟ ولأى غاية؟ إننا نرى الدخان ولا نبحث عن مصدر النار. فحين تصبح غايتنا استعراض المشكلات لا تفكيكها، نظل ندور فى دائرة التشخيص العقيم، نغسل الوجع بالكلمات ونترك المرض فى الجسد كما هو.

ولنأخذ التعليم مثالاً لا موضوعاً. الجميع يشتكى من قِدم المناهج، ومن نظامٍ يقتل الإبداع ويُغذّى الحفظ، لكن قلّما يتساءل أحد عن الدوافع التى تجعل القائمين على المنظومة التعليمية يحافظون على هذا الجمود. فالتعليم فى جوهره أداة لتشكيل الوعى، ومن ثم فهو أداة سلطة بقدر ما هو أداة معرفة. الإصلاح الجذرى هنا ليس مجرد تطوير كتب أو تدريب معلمين، بل يتطلب رؤية تُطلق حرية الفكر، وتقبل النقد، وتكافئ التساؤل. وهى كلها أمور تُربك نظاماً يفضّل الطاعة على الإبداع، والتلقين على الفهم.

والحقيقة أن التردد فى الإصلاح لا يصدر فقط عن خوفٍ من الوعى، بل عن خوفٍ من الكلفة. فكل خطوة نحو تعليمٍ حقيقى تعنى فتح خزائن الدولة، ورفع أجور المعلمين، وتشييد المدارس، وتحديث الأدوات، وبذل جهدٍ فى التخطيط والمتابعة والتقييم. إنها ضريبة مادية لا يرغب النظام فى دفعها، وضريبة سياسية يخشى تبعاتها؛ فالمتعلم الواعى يُطالب، ويناقش، ويُحاسب، وهذا يعنى أن التعليم الحرّ يفتح الباب لتوازنٍ جديد بين الحاكم والمجتمع. لذلك يُفضَّل التجميل على الجذر، والتسكين على العلاج.

إن السطحية ليست مجرد ضعف فكرى، بل هى نمط تفكيرٍ يُريحنا من مواجهة أنفسنا. نُفضّل الأوصاف السريعة لأنها لا تُحمّلنا مسؤولية التغيير، ونبحث عن حلول جاهزة لأنها لا تُلزمنا بالمخاطرة. وهكذا نظل نعيش داخل مشكلاتنا، نعيد صياغتها بألف شكل دون أن نمس جوهرها.

إن أول خطوة نحو الإصلاح ليست أن نُكثِر الحديث، بل أن نُحسن التفكير. فحين نملك الشجاعة لننظر إلى الجذر، سنكتشف أن الطريق إلى التغيير يبدأ من الوعى لا من الشكوى.