في زمنٍ صار فيه التعليم مظهرًا يُتفاخر به، لا وسيلةً للارتقاء بالروحوالفكر، أصبح من المألوف أن ترى أميًّا يملك بصيرةً نافذةً وحكمةًفطرية، تقوده إلى الصواب في مواقف الحياة، بينما يقف إلى جوارهمتعلّمٌ مُثقّل بالشهادات، عاجزٌ عن فهم ذاته أو الناس من حوله. وهناتتجلّى المفارقة المؤلمة: فليس كل من قرأ كتابًا فهِم الحياة، ولا كل من لميقرأ جَهِلها.
فقد اصبحنا في زمنٍ ازدادت فيه الجامعات، وتضاعفت فيهالشهادات، ضاعت الحقيقة الكبرى بين الألقاب والمظاهر، وغاب عنكثيرين أن الإنسان لا يُقاس بما يحفظه من معلومات، بل بما يترجمهمن سلوكٍ ووعيٍ وقيم. فكم من حامل شهادة عليا لا يحسن أدبالحوار، وكم من بسيطٍ في التعليم، يسبق بخُلقه ووعيه أصحاب الألقابالعليا.
لقد صار التعليم عند البعض وسيلة تفاخر اجتماعي لا وسيلة إصلاحوبناء، فغابت الغاية الأصلية من العلم وهي تهذيب النفس والعقل معًا.إن من يظن أن الجامعة تصنع إنسانًا صالحًا لمجرّد أنها تُخرّج حملةشهادات، كمن يظن أن الكتاب يجعل القارئ حكيمًا دون أن يُعمل فكرهفيه. فالعلم لا يسكن العقول فقط، بل يسكن الضمير فالعلم لا يصنع انساناً راقياً، لكنه يُجمّل إنسانيتة ان كانت موجودة بالفعل
لقد خلق الله الإنسان مزوّدًا بعقلٍ فطريٍّ وضميرٍ نقيٍّ قادرٍ على إدراكالخير دون معلم، ولكن هذا العقل يحتاج إلى من يغذّيه بالقيموالرحمة،لا بالمعلومات فقط.
قال تعالى في كتابه العزيز: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" البقرة(31)فكانت أول نعمةٍ من الله على الإنسان هي التعليم، لا بالكتب، بلبالفهم والإدراك والقدرة على التمييز. والحكمة في جوهرها ليست علمًايُلقَّن، بل نورٌ يقذفه الله في القلب، يهدي به صاحبه إلى الحق حتى لولم يحمل شهادةً واحدة.
فقال الله تعالى في كتابه العزيز:: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوامِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" المجادلة (11)ولم يقل سبحانه“الذين نالوا الشهادات”، بل “أوتوا العلم”، لأن العلم الحقيقي هووعيٌ يُورِث العمل، لا ورقٌ يُعلَّق على الجدران.
وفي الحديث الشريف قال النبي (ص)": إنما بُعثت لأتمممكارم الأخلاق "فجعل الله الأخلاق غاية الرسالة والتعليم، لأن العلمبلا خلقٍ لا يزيد الإنسان إلا غفلةً وغرورًا.ولذلك قال أيضًا: "خيرُ الناسأنفعهم للناس"فالقيمة الحقيقية ليست في الحفظ أو التنظير، بل فيأثر الإنسان وسلوكه فيمن حوله.
فالمجتمعات لا ترتقي بعدد الجامعيين، بل بعدد الحكماءفيها. الذي يُصلح بين الناس دون مقابل، والذي يزرع الكلمةالطيبة في قلوبهم، هو المتعلم الحقيقي وإن كان لا يقرأ ولايكتب. أما الذي يتحدث عن الأخلاق في قاعةٍ فخمة ثم يُهينالآخرين، فهو في الحقيقة جاهل بثوب علم. قال تعالى: (كَبُرَمَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" ((الصف 3 ) )
تُقاس قيمة الإنسان بقدر ما يظهر من أفعاله لا من أقواله. فقد ترىرجلًا بسيطًا، أميًّا، لكنه يوقّر الكبير، ويرحم الصغير، ويؤدي الأمانةبإخلاص، فتشعر أن الله علّمه ما لم تُعلّمه الكتب. وقد ترى آخرَ حاصلًاعلى أعلى الدرجات، لكنه يسيء الظن، ويتعالى على الناس، فينقصمن قدر نفسه وإن ظنّ أنه ارتفع.
الحكمة إذًا ليست حكرًا على المتعلمين، بل هي ثمرة الإيمان والتجربةوالتواضع. قال النبي ﷺ: "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهوأحق بها." أي أن المؤمن يبحث عنها في كل مكان، عند العالم وعندالأمي، عند الغني والفقير،لأنها لا تقاس بالعلم الدنيوى، بل بالقلبالذي يطلب الحق .وفي الحقيقة، كم من أمّيٍّ علّم من حوله الصبروالكرامة والرضا، وكم من متعلمٍ نشر الكبر والجدال والغرور إن الحكمةلا تحتاج قاعة محاضرات، بل قلبًا نقيًا وتجربةً صادقة. فربّ دروسالحياة أعمق من أي منهج، وربّ عابرٍ بسيطٍ مرّ بكلمةٍ، ترك فيك أثرًا لميتركه أستاذٌ في أعوام.
في النهاية، إن الأميّ الحكيم قد لا يملك قلمًا، لكنه يملك ضميرًا؛والمتعلم الذي لا يفهم قد يحفظ كل شيء، إلا جوهر الإنسان. فالعبرةليست بما تعلّمت، بل بما صرت عليه بعد أن تعلّمت. إنها معادلة الوعيالتي لا تُكتب في الشهادات، بل تُقرأ في القلوب. لقد آن لنا أن نعيدتعريف المتعلم؛ فالمتعلم الحقيقي هو من يملك تواضع السؤال، لا غرورالإجابة. هو من يرى في علمه وسيلة لخدمة الناس، لا سلاحًالاحتقارهم. هو الذي يربط بين فكره وقلبه، بين معرفته وسلوكه، بين علمهوإيمانه.
أمّيٌّ لكنه حكيم... ومتعلمٌ لم يتعلّم بعد" عنوانٌ لكل زمنٍ نحتاج فيه إلى أن نراجع أنفسنا: هل علمنا زادنا نورًا ام لا؟!
✍. د/ الشيماء عاطف عبد المولي اسماعيل
التعليقات