لا أظن، يا رفاق، أن هناك ما هو أشد قسوة من أن نكتشف بعد الغياب أننا نجاور كنزًا ولم نمد أيدينا إليه، أن نعيش في حضرة نبوغ يتيم ونتركه يذوي وحيدًا، ثم نصحو لاحقًا على أثر باهت يذكّرنا بأن ذلك الرجل كان مثل حياة كاملة تمشي بيننا.

هكذا يبدو البردوني، قياسًا باليمن كله، وقياسًا بالإنسان كله.

كنت أقرأه فأشعر أنني أمام شاعر يسحبني من عتبة اليومي إلى صميم الوجود.

كل بيت كتبه يشبه شرفة أطل منها على بلادي، على وجوه ناسها، على تعب أمهاتهم، على صبرهم الطويل، وعلى ضحكاتهم التي تتكسّر في الطرقات ثم تعود لتزهر.

وكان يدرك ما لا نراه، لا بعينيه وقد أُطفئت صغيرًا، فجعَلنا نرى بعين أعمق اسمها القلب.

عاش البردوني مأساة عمره منذ الطفولة انطفأ بصره وانطفأت أمامه أيضًا أبواب الطمأنينة.

القدر صاغه من حرمان مضاعف... حرمان العين، وحرمان الرغيف، وحرمان الدفء البشري.

لكنّه، في وسط هذا الخراب، ظل يزرع حدائق من كلمات، أراد أن يقول للعالم إن الإنسان أكبر من محنته، وإن الشاعر يستطيع أن يجعل من عماه بصيرة تُبصر ما لا تبصره العيون.

في شعره تنصت اليمن إلى نفسها، وتسمع أنينها بصوت لم يجرؤ غيره على إطلاقه.

في زمن ظل فيه الشعر ترفًا أو مديحًا للسلطان، افتتح البردوني فم الجرح، وصرخ بما لا يُقال، فأصبح شعره تاريخًا بديلًا، ومرآة صافية نرى فيها بشاعة عصورنا.

أراه اليوم جبلًا من حزن، يقف وحيدًا في صحراء، يجر وراءه أمة بأكملها، ويكتب عنها وصيتها.

وما أخجلنا حين تركناه يتعثّر وحده، ونفضنا أيدينا من وجعه، ثم عدنا بعد رحيله نرفع صوره ونعلّق أبياته على جدراننا، نحاول بكل سخف أن نغسل خطيئة صمتنا القديم.

لقد منح البردوني اليمن ما لم تعطه اليمن نفسها،منحها صوتًا يتجاوز حدودها، وحوّل جراحها الصغيرة إلى جرح إنساني كبير يسمعه العربي في المشرق كما يسمعه العربي في المغرب.

وجعلك حين تقرأه، تقرأ نفسك أنت، تقرأ غربتك، قلقك، هشاشتك، حلمك المؤجل.

أي عبقرية تلك التي وُلدت في بيت فقير، وكبرت بين أزقة ضيقة، ومع ذلك استمرت تكتب شعرًا يشبه المجرات في اتساعها!

وأي مفارقة أن يكون رجل بلا بصر، هو المبصر الأكبر في تاريخنا، ومكسور الجسد لكنه أصلب من صخور جبالنا… نعم، هكذا جسد البردوني الوطن نفسه وهو يئن.

إنني أكتب عنه اليوم، وأشعر أنني لا أدوّن سيرة شاعر مات، فقط أخط سيرة وطن ما يزال يموت كل يوم.

وربما يكون عزاؤنا الوحيد أن صوته لم يندثر، وأن شعره ما زال يطاردنا في كتبنا، وفي ذاكرتنا، وفي أناشيدنا.

كل بيت من أبياته قنديل، وكل صورة رسمها باللفظ نافذة تطل بنا على ما رفضنا أن نراه.

يا للبصيرة التي جعلت من اليمن أرضًا حيّة في كلماته، ويا للخيال الذي استطاع أن يزرع الجمال في أظلم زوايا البؤس.

سيبقى البردوني ما بقي اليمن، وسيبقى اليمن ما بقي البردوني، لأنهما وجهان لوجع واحد، ولأمل واحد أيضًا.

وأنا اليوم، كابن عاقّ، أكتب عنه لأعتذر، لأنني لست قادرًا على تبرئة نفسي أو تبرئة جيل كامل، ولكنني أؤمن أن الكلمات اعتراف، وأن الاعتراف خطوة أولى نحو الغفران.

رحم الله البردوني، وطيب ذكراه فينا وفي وطنه.

تاريخ وفاة عبد الله البردوني: 30 أغسطس 1999

فكري محمد الخالد