في زمن يتغير بسرعة الضوء، يجد الإنسان العربي المعاصر نفسه في قلب عاصفة وجودية عنوانها: "من أكون؟". سؤال بسيط في ظاهره، لكنه يعكس أزمة عميقة، أزمة هوية، تتأرجح بين جذور الماضي وضغوط الحاضر وضبابية المستقبل.
بين الأمس واليوم: من الثبات إلى السيولة
في الماضي، كانت هوية الإنسان العربي واضحة المعالم. كان يعرف نفسه كجزء من أمة عربية إسلامية، ذات حضارة ممتدة، لغة مشتركة، وقيم راسخة مستمدة من الدين والتقاليد. لم يكن بحاجة إلى تعريف نفسه أمام العالم، فقد كانت حضارته تتحدث عنه.
أما اليوم، كما يقول المفكر البولندي زيغمونت باومان، فإن الهوية لم تعد شيئًا "ثابتًا" بل أصبحت "سائلة". يتنقل الإنسان العربي المعاصر بين أكثر من مرآة: واحدة تعكس ماضيه الإسلامي والعربي، وأخرى تفرض عليه صورة "الإنسان العالمي" المعلّب وفق النمط الغربي.
لا هو عربي إسلامي بالكامل، ولا هو غربي تمامًا
لقد أصبح هذا الإنسان معلقًا في الفراغ. لا يستطيع العودة التامة إلى الماضي، ولا يستطيع الاندماج الكامل في الحاضر الغربي. فهو ليس كأجداده الذين عاشوا في مجتمعات دينية متماسكة، تنظمها منظومة قيم متجانسة. وفي الوقت ذاته، لا يشبه أقرانه الغربيين الذين نشؤوا في بيئة علمانية، فردانية، ما بعد حداثية.
من المسؤول؟ أسباب هذه الأزمة
هذه الهوية المشوشة ليست وليدة الفراغ، بل نتاج مسارات اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة، من أهمها:
1. فرض العَلمانية كمشروع قسري
ظهرت بعد الاستعمار موجة من النخب السياسية والثقافية التي حاولت نقل النموذج الغربي كما هو إلى المجتمعات العربية، دون مراعاة للخصوصيات الثقافية والدينية. فتم تهميش الدين في المجال العام، وإقصاء دوره في تشكيل الرؤية الكونية للإنسان، وتحويله إلى طقس خاص لا يُسمح له بالتأثير في القرار أو التعليم أو الإعلام.
2. تهميش دور الدين من المجتمع
تم تصوير الدين على أنه عائق أمام "التقدم"، وارتبط في الإعلام والمدرسة ببعض مظاهر التخلف، دون التفريق بين جوهر الدين وسوء تطبيقه. ففقد كثير من الشباب الثقة في الموروث، وبدأوا يبحثون عن المعنى في هويات بديلة، غالبًا ما تكون مستوردة.
3. التعليب المدرسي والثقافي
أُجبر الإنسان العربي على الدخول في منظومات تعليمية مُعلّبة، تحاكي النموذج الفرنسي أو البريطاني أو الأمريكي، دون تطوير من الداخل. فتم قطع العلاقة بين الطالب وتاريخه وجغرافيته، حتى أصبحت كتب التاريخ وكأنها كتب أجنبية لا تعنيه.
4. النخب العلمانية "المغتربة"
برزت نخب ثقافية وسياسية تعاني من اغتراب مزدوج: فهي لا تنتمي كليًا للثقافة العربية الإسلامية، ولا تندمج فعليًا في النمط الغربي. ومع ذلك، فهي تسعى إلى فرض واقع ثقافي "مصنّع" لا يتناسب مع التربة المحلية، بل يتجاهلها أو يحتقرها أحيانًا.
نحو مستقبل متوازن: هل من مخرج؟
رغم سوداوية الصورة، إلا أن الأمل لا يغيب. فربما تكون هذه "الأزمة" فرصة لإعادة النظر في مفاهيمنا، وبناء هوية جديدة لا تُنكر الماضي، ولا تتجاهل الحاضر. هوية:
- تأخذ من الماضي قيمه وثباته،
- وتأخذ من الحاضر حركيته وانفتاحه،
- وتنفتح على المستقبل دون ذوبان.
المطلوب ليس استيراد نموذج جاهز، بل بناء مشروع نهضوي أصيل، ينطلق من الواقع العربي، يعيد الاعتبار للدين كقوة أخلاقية وتنموية، ويصوغ تعليما يربط الإنسان بأرضه وتاريخه، ويحرر النخب من عقدة "الآخر المتفوق".
خاتمة
الإنسان العربي اليوم لا يعيش فقط أزمة اقتصادية أو سياسية، بل أزمة وجودية. ولكي يعبر إلى المستقبل، عليه أن يصالح ذاته، ويستعيد بوصلته، ويفهم أن هويته ليست سجنًا، بل جسرًا يربطه بماضيه، ويهيئه لبناء غدٍ يليق به، صدق عمر رضي الله حين قال: نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله.

التعليقات