كما عودتكم أحبّتي بالطرح السَّلِس والعميق في نفس الوقت، لكن في هذا المقال سأضطرُّ لرفع هذا السَّقف قليلًا، وسيفهم هذا المقال بعض الناس، وليس جميعهم. وسأحاول بقدر الإمكان التبسيط حتى يتشرّبه أكبر قدر من الناس بكل سهولة.
ولعِظَمِ أمر ما سأطرح، أحبّتي، أقول لكم: لا بدّ من تصفية الذهن تمامًا والتركيز الشديد، لأن هذا من أهم المواضيع المطروحة في كتاب، إن لم يكن أهمّها.
هناك الكثير جدًّا ممن هم دعاة للإسلام، والمشايخ الكبار، قد أدلوا بدلوهم حول قضيّة: ما الدليل على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصدق ما بُعث به، وهو الإسلام؟ وكلّها أدلّة عظيمة وقاطعة، لكن سأذكر لكم الآن دليلاً لم يسبقني أحد إلى ذكره وتسليط الضوء عليه. ومن هذا الدليل سينفتح أمامك كنز وسرّ جليل، ستصبح من خلاله عالمًا، وإن كنت من أجهل الناس ولا تعرف أيّ شيء عن دينك. فهذا السرّ سيمنحك الكثير من العطايا والفتوحات التي ستجعلك تعرف مَن العالِم، ومَن الجاهل، ومَن هو ضالّ، ومَن هو على هُدى، وتفرّق بين الكاذب الخبيث وبين الصادق طاهر الباطن، وغيرها الكثير من الأشياء التي ستتجلّى أمامك من خلال هذا السرّ وفهمه جيدًا.
وكلّ هذا وأنت لا تعلم شيئًا عن الإسلام. وهذا ينفع أيضًا لمن هو على مِلّةٍ غير مِلّة الإسلام ويبحث عن الحقّ؛ فمن خلال هذا السرّ سيهتدي مَن هو على غير ملّة الإسلام، إن كان منصفًا بينه وبين نفسه، ويبحث عن الحقّ. بل وسيعرف من خلاله الطائفة التي ما زالت على الحقّ.
فكما تعلمون أحبّتي، قد تفرّق الإسلام لعدّة طوائف وفِرَق، بغضّ النظر عن المسميات وصحتها، فهناك السلفيّون الذين هم أهل السُّنّة والجماعة، وهناك الأشاعرة، والصوفيّة، بل والشيعة بمذاهبها التي تتستّر خلف الإسلام، وغيرهم من الطوائف والمذاهب. ستتجلّى حقيقة كلّ هؤلاء، وأنتم بأنفسكم -أحبّتي- مَن ستكتشفون ذلك؛ مَن هو على صراط مستقيم، ومَن هم في ضلال مبين، وستعرفون ذلك، حتّى وإن كنتم لا تعرفون شيئًا عن الإسلام كما أخبرتكم.
ولكن دعوني أذكر شيئًا مهمًّا قبل الخوض في أعماق هذا الموضوع...
أحبّتي وقرّائي الكرام: هل تعرفون الكِبْر الذي قال عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سَفَهُ الحقّ، وغمْصُ الناس»؟
فالكِبْر -أحبّتي- هو: احتقار الناس واستصغارهم والتنقُّص منهم، والإعراض عن الحقّ وسَفْهُه. وعكسه التواضع. فالكِبْر -أحبّتي- من أكبر المصائب والكبائر التي تُصيب قلوب الناس. فالجميع -وبدون استثناء أحد- يكره ويبغض وينفِر من الشخص المتكبّر.
فتخيّل أنك تقف مع أحدٍ يستحقرك، ويرى نفسه عليك، أو يستخفّ بك، أو يتباهى بعِلمه، أو لا يحبّ أن يُظْهِرَ أنه على خطأ أو أن يُخْطِئ. فبلا أدنى شكّ، سوف تكره هذا الشخص وتنفِر منه تمامًا. وهذا مرضٌ خطيرٌ جدًّا إن تمكّن من الإنسان كبَّه في نار جهنّم -والعياذ بالله-.
ومن قذارة وعِظَم هذا المرض، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم -الذي لا ينطق عن الهوى-: "لا يدخل الجنّة مَن كان في قلبه مثقالُ ذرّةٍ من كِبْر". لم يقل: "المتكبّر"، أحبّتي، وإنما قال: "مَن كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر". لك أن تتخيّل مدى الرعب في هذا الحديث، وعِظَم الأمر.
لأنه -أحبّتي- لو اجتمع الكِبْر في قلب مسلم مؤمن بالله، أفسده وأحبط عمله.
الآن قد يقول أحد: وما علاقة هذا بما نودّ قوله؟
أقول -وبالله التوفيق، وركّزوا جيّدًا فيما أقول-: فوالله إنّ الأمر عظيمٌ جدًّا...
أحبّتي وقرّائي الكرام أينما كنتم في هذا العالم الفسيح...
عندما يمنّ الله على أحدٍ في هذا الزمان أو غيره من الأزمنة ببعض كرمه، فمنهم من يشكر، ومنهم من يَطغى. وهنا مربط الفرس.
فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رغم ما أحاط به من علم ربّانيّ، ومعجزات، وقوّة، وشجاعة، وذكاء، وفصاحة، وفِطنة، وجمال، وهيبة، وغيرها الكثير من الهبات الربّانية العظيمة التي اجتمعت فيه صلّى الله عليه وسلّم... كلّ ذلك -أحبّتي- ويقول هذا الحديث المزلزل: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر".
هذا أمر -أحبّتي- من أعجب الأمور.
فكيف لإنسانٍ تجتمع فيه كلّ تلك المنح والعطايا العظيمة، ولا تجد في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر؟
وعندما تقرؤون في سيرته -أحبّتي- تجدوا أنّ الكفّار والمشركين قد شهدوا له بصفاء ونقاء قلبه، ومدى تواضعه العظيم.
أحبّتي، لماذا أقول إنّ هذا أقوى دليل على صدقه وصدق ما جاء به؟ لأنّ الله منذ خلق آدم وحتى يومنا هذا، لم نرَ في حياتنا -ولا يستحيل أن نرى- تلك الظاهرة، وهي: أن تجد مَن منّ الله عليه بشيء من مال أو منصب أو جمال أو شهرة، إلّا وقد طغى وتكبّر بشكل يلاحظه الأحمق، فضلًا عن العاقل.
فلن تجدوا -أحبّتي وقرّائي الكرام- إنسانًا عنده نعمة من مال أو منصب أو شهرة، إلّا وقد تسلّل وتغلغل الكِبْر إلى قلبه.
ويستحيل أن تجد إنسانًا ليس في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر في هذا الكون بأسره، منذ خلق آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إلّا فقط مَن اتّبع النبيّ حقّ الاتّباع.
فلكم أن تتخيّلوا -أحبّتي- هذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بهذه العطايا والمنح الربانية العظيمة، وقد صُفّي وطُهّر قلبه من الكِبْر تمامًا!
هذا أمر -أحبّتي- إن تفكّرتم فيه لاهتديتم.
وفوق هذا، يقول الله عزّ وجلّ هذه الآية المزلزلة: "كَلّا إنّ الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى".
بمجرّد أن يرى هذا الإنسان نفسه قد امتلك نعمة أو منصبًا أو غيره من أمور الدنيا... يطغى تمامًا. وهذا لا يحدث إلا في حالة واحدة: وهي عدم اتّباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
إذًا نستنتج أنّ هذا سيقع في أيّ إنسان -لا محالة- ممن هم دون الهُدى النبوي، من نصارى ومشركي العالم.
فيستحيل أن تجد إنسانًا مَنّ الله عليه بنعمة، وهو ليس على الهُدى النبوي، إلّا وقد طغى ودخل الكِبْر إلى قلبه.
ومن هنا -أحبّتي- وبمعرفتكم لهذا السرّ العظيم، تستطيعون الآن أن تميّزوا بين الغَثّ والسَّمين بكلّ سهولة، وبين مَن هو ضالّ، ومَن هو على هُدى النبيّ، وعلى صراط مستقيم. وهذا من خلال معرفة الزُّبدة في هذا، وهو مفتاح الكِبْر.
فبه ستعرفون الكثير جدًّا من الأمور والخفايا. وهذا لا يحتاج منك حتّى أن تكون عالِمًا، بل حتّى وإن كنت من أجهل الناس، ولا تعرف عن الإسلام إلا اسمه، فيمكنك بهذا المفتاح المحوريّ معرفة مَن هو ضالّ مضلّ خبيث، ومَن هو على هُدى النبيّ وعلى صراط مستقيم.وهذا أصبح أسهل من شُرْبةِ ماء، فيستحيل أن يجتمع الكِبْر في قلب من اتبع النبي حقَّ الإتباع.
ولكن أحبتي، دعوني أسوق لكم بعض الناس على مرِّ الزمان، ممن مَنَّ الله عليهم ولم يكونوا على هدي النبي أو هدي نبيهم في هذا الوقت، كيف تسلَّل وتغلغل الكِبْر، وكيف طغوا، وكيف كانت نهايتهم.
وعليه، فليحذر من غضب الله من كان منكم في قلبه كِبْر.
فها هو قارون، وقد أُوتي من الكنوز ما إنَّ مفاتح مخازنه ليحملها عصبة من الرجال، كيف دخل الكِبْر إلى قلبه، وجعله يطغى ويتجبّر، وكانت نهايته أن الله خسف به وبقومه الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، وما كان من المنتصرين.
وها هو فرعون الطاغية، وقد مَنَّ الله عليه ببعض من كرمه، لكنه ماذا فعل؟ هل شكر؟ هل آمن بموسى وهارون؟ لا، وإنما ترك الكِبْر، وقد كبَّل قلبه، حتى كانت نهاية ذلك أن الله أغرقه ليكون عبرة لغيره.
وها هو النمرود، وقد أُوتي بعضًا من الملك، فلم يؤمن بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي لم يكن في قلبه – هو وجميع أنبياء الله صلوات ربي وسلامه عليهم – مثقال ذرة من كِبْر، لم يؤمن به، وإنما رأى أنه أعظم من أن يؤمن بإبراهيم، فملأ الكِبْر قلبه حتى طغى، فكانت نهايته ماذا؟ أماته الله ببعوضة!
وها هو أبو جهل، الذي كان ثريًّا جدًّا، ولكنه لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وكفر به، وقد دخل قلبه الكِبْر، فكبَّه الله في النار مع غيره ممن طغوا في الأرض.
وغيرهم كثير جدًّا، والتاريخ عارمٌ بالأمثلة، وإن تكلمنا من هنا وحتى قيام الساعة لن ننتهي.
فالإسلام الصحيح، والهدي النبوي الصحيح، أحبتي، يُطهّر باطن الإنسان من هذا الكِبْر، والعياذ بالله.
وعليه، فأصبحنا اليوم نرى أشخاصًا قد تصدّروا الإعلام ووسائل التواصل، من سلفيين، وهم أهل السنة والجماعة، وهذه – لا شك – أنها هي على صراط مستقيم، على عكس الباقين من أشاعرة وصوفية وشيعة ومداخلة وخوارج وغيرهم.
ولكلٍ من هذه الفرق أتباع كثر، فكيف الخلاص من هذه المفارقة؟ ومن من هؤلاء الفرق هو على السنة الصحيحة، وعلى هُدى وصراط مستقيم؟ ومن منهم على ضلال؟ وكيف نعرف؟
السبيل الوحيد، أحبتي وقرائي الكرام، للخلاص من هذا التفرّق، والوصول للحق، والفرقة الحق، هو هذا المفتاح العظيم الذي أهديتكم إياه بفضل الله.
والجميل في الأمر، أحبتي، أن الجاهل بالإسلام تمامًا يستطيع أن يحدّد ذلك بكل أنواع السهولة.
فأريد من كل الأحبة الآن، ممن هو على غير السنة والجماعة بفهم السلف الصالح، أن يسمع لعلماء ومشايخ كل فرقة من الفرق التي ذكرناها وغيرها من الفرق، ويستعمل المفتاح ليفصل في الأمر، فبه ستتجلى أمامكم الحقيقة تمامًا، وتكون واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وترى الطريق المستقيم قد اتضح أمامك لتسير عليه دون أي عناء بعدها ولا شقاء.
فالقاعدة يا عزيزي هي: "من كان في قلبه كِبْر، ولو جزء صغير جدًّا، فهو على غير هدي النبي."
خذها الآن واذهب بها لمشايخك، وممن تأخذ منهم دينك، وانظر:
هل هم يرون أنفسهم على غيرهم؟
هل هم يحتقرون أحدًا من باقي الفرق التي من المفترض أنها في دائرة الإسلام؟
هل هم يرون أنهم من أعلم الناس، ويرددون عبارات مثل:
"من هذا حتى أُحادثه؟"، "من هذا حتى يقول لي كذا؟"، "من هذا حتى ينصحني؟"، "من هذا حتى أتناقش معه؟"
هذا ضلال مبين، أحبتي!
فلا يقول هذا الكلام إلا ضال خبيث متكبر!
أو ترى أحدهم يفتخر بعلمه، أو تنظر هل يقبلون المدح لهم وتعظيمهم، ويفرحون ويرضون بذلك؟ والنبي يقول: "إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب."
أو انظر، هل هذا الشخص يدعو على مسلم، ويسبه، ويُقلل منه، ويرميه بفحش القول، ويلعنه؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المسلم باللعان، ولا بالكذاب، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء."
كل هذه الأفعال، أحبتي، تندرج تحت الكِبْر.
فإن وجدتها في إنسان، أو شيخ تتابعه وتحبه، فأنت مخدوع تمامًا، وقد أضلك.
فابتعد عنه تمامًا.
أعتقد الآن، أحبتي وقرائي، وقد تجلّت لكم الرؤية، ولا غبار عليها.
فأسأل الله أن يكون الجميع قد فَهِم مقالي هذا، فقد حاولت بكل الطرق تبسيطه قدر استطاعتي.
وعليه، فمن فهم ما سُطِّر من المشايخ، وممن لديهم القدرة على نقل ما كتبت في فيديو، مع الإتيان بشواهد لفيديوهات – فقد أحسن صُنعًا.
وإلى هنا أنتهي من المقال، داعيًا الله لي ولكم أن يهدينا لما يُحب ويرضى.
دمتم سالمين... متفكّرين.
التعليقات