الذكريات أثر الحب : حين تهمس في قلوبنا
في زاويةٍ ما من الذاكرة، هناك لحظات لا تموت. تمرّ بنا الأيام وتغيرنا الوجوه، لكن بعض الذكريات تبقى، كأنها حفرت على جدران الروح. الحب لا يمرّ دون أن يترك أثراً، وربما يكون الأثر الأعظم هو الذكريات. تلك الصور الصغيرة التي تعود فجأة، دون موعد، وتُشعل القلب بنار قديمة.
الذكريات ليست مجرّد استرجاعٍ عقلي لما كان، بل هي استمرار خفيّ للحب في شكل آخر. قد ينتهي اللقاء، وينطفئ الحضور، لكن الذاكرة تبقى تقاتل النسيان بكل ما فيها من جمال ووجع. يقول الفيلسوف الفرنسي مارسيل بروست: "الذكريات الحقيقية لا تموت، هي نائمة فقط في قلبنا، تنتظر لحظة الظهور." وهكذا، حين نشتاق، لا نشتاق للوجه فقط، بل للمكان، للصوت، للرائحة، لطريقة الضحك وحتى لصمتٍ شاركناه ذات يوم.
الحب يُكسب اللحظات طعماً مختلفاً. ففنجان قهوة في حضرة الحبيب، لا يُنسى. نظرةٌ واحدة قد تُخلّد، لأن القلب لا يقيس الأمور كما يقيسها العقل. لذا قال الشاعر جبران خليل جبران: "الذكريات جمرات من نار، إذا ما انطفأت من الخارج بقيت متقدة في الداخل." وهذا التوقد هو ما يجعل الذكرى حيّة، مشتعلة، لا تموت مهما غابت الوجوه وتبدّلت الأيام.
ولا عجب أن تكون أعذب القصائد وأقسى الروايات وُلدت من رحم الذكرى. فالحب الذي يترك خلفه صدى الذكريات هو حبٌ حقيقي، لأنه استطاع أن يزرع جذوره في أعماق النفس. حتى نيتشه الذي عرف بصلابته قال: "الحب لا يُقاس باستمراره، بل بمدى بقاء أثره في النفس."
لكن، هل الذكريات نعمة أم نقمة؟ إنها الاثنين معاً. هي البلسم حين نريد أن نتذكر أننا عشنا، وجرحٌ حين نوقن أننا فقدنا. لكنها رغم ألمها، تبقى شاهداً على أننا عرفنا الحب، ولو للحظة. وتلك اللحظة، في عالم يمضي بسرعة، تساوي دهراً من اللاحب.
في النهاية، الذكريات ليست فقط ما نتذكره، بل ما نحن عليه. كل حب عشناه، ترك فينا شيئاً لا يُرى ولا يُقال، لكنه يظهر في نظرة، في كلمة، في نغمة موسيقى. وإن كان لا بدّ من نهاية، فلتكن كما قال الأديب باولو كويلو: "الحب لا يموت، هو فقط يتحوّل إلى ذكرى."
التعليقات