بعد أن تلقي الشمس خيوطها الأولى على الأرض، تُعلن للبشر أن يستيقظوا، أن يتحركوا، أن يخرجوا من سباتهم إلى سعيهم المحموم. ها هم ينهضون، يتزاحمون، يمضون في دروبهم اليومية، كلٌّ يبحث عن شيء، كلٌّ يطارد سرابًا يظنه كنزًا. ثم تمرّ الساعات، ويغيب النهار، فتشتعل المصابيح وتخفت الضوضاء قليلًا، لكن العجلة لا تتوقف، فالليل ليس وقتًا للراحة للجميع؛ هناك من يسهر ليذاكر، ومن يعمل ليلاً، ومن يحصي أرباحه أو يخطط لخسائره.
هكذا تدور الحياة، بين نهارٍ يعجّ بالحركة، وليلٍ تسكن فيه الأشياء، لكنّ الإنسان لا يسكن. يظلّ يركض، يلهث، يطارد أحلامه، وكأنها ستبقى معه أبد الدهر. البعض يلهث وراء المال، والبعض خلف الجاه والمكانة، وكأنهم يمسكون بقبضةٍ من هواء، يتشبثون بما لا يدوم، ويتناسون السؤال الأهم: لماذا؟ لماذا كل هذا الركض؟ إلى أين؟ ما الذي رأيتموه في الدنيا حتى تنغمسوا فيها إلى هذا الحد؟
لو قُدّر لإنسانٍ أن ينال كل ما يشتهي في لحظة واحدة، لسُرعان ما تسلل إليه الملل، لوجد الفراغ ينهش روحه، ولسأل نفسه في حيرة: وماذا بعد؟ أين اللذة التي كنت أبحث عنها؟ أين المتعة الحقيقية؟ أين ذلك الطعم الذي ظننت أنه سيشبعني؟ الحقيقة أن الدنيا لم تُخلق لتُشبع أحدًا، ولم تكن يومًا موطنًا للكمال. إنها محطة قصيرة، عبور سريع في رحلة طويلة، ورغم ذلك، يتقاتل الناس عليها، يكدّون، يشقون، يظنون أنهم سيمسكون بزمامها، لكنهم في الحقيقة ينجرفون معها كريشة في مهبّ الريح.
وفي نهاية المطاف، عندما تطوى صفحة الحياة، عندما تتلاشى الجبال والوديان، وتغيب البحار والمحيطات، حين ينتهي كل شيء كما بدأ، ماذا سيبقى؟ لا مال ولا جاه، بل أثر، بصمة خفية تركها الإنسان وراءه. قد تكون ابتسامة زرعها في وجه طفل، أو كلمة طيبة هونت على إنسان. قد تكون علمًا نفع الناس، أو خيرًا زُرع في أرضٍ عطشى.
كم هو غريب أن يظن الإنسان أن الفرصة ستدوم، أن الزمن في صفّه، بينما هو في الحقيقة ينفلت من بين أصابعه كالرمال. وفي النهاية، سنقف جميعًا أمام الحقيقة الكبرى: هل تركنا ما يستحق البقاء؟ أم كان كل ما سعينا إليه مجرد سراب؟
التعليقات