الأرضية التي قامت عليها فلسفة ما بعد الحداثة ..

استمعت الى محاضرة للدكتور الطيب بوعزة و هو مفكر مغربي حول جذور فلسفة ما بعد الحداثة .. عنوان المحاضرة ( الأرضية التي قامت عليها فلسفة ما بعد الحداثة ) .. لخصتها لكم على شكل حوار بيني و بين صديقتي راما  : 

بالبداية مقدمة قصيرة عن جذور الحداثة نفسها قبل الحديث عن ما بعد الحداثة : 

يقول هيغل أن الذي اكتشف أرضية الحداثة هو ديكارت ، و لكي نوجز هذه الأرضية نقول أن الحداثة تقوم على الذاتية ( الأنا البشرية ) ، و على العقلانية ، على الثقة في الإمكان العقلي البشري ، هذا هو مشروع فلسفة الحداثة .

الحداثة إيمان بالعقل و العقلنة ، أو كما قال هيدغر بأنها الفلسفات الذاتية ، و لعل لفظ الذاتية ، أي الأنا البشرية أدق من قول العقل ، لأننا يمكن بهذا أن ندخل حتى الفلسفة التجريبية في الحداثة من منطلق تشبثها بالذات ، لأنه حتى الفلسفة التجريبية التي تقول ان العقل لوح فارغ و صفحة بيضاء ، هي تنتهي إلى أن المعرفة نتاج الذات البشرية ، لأن الحواس هي التي تنقل معطيات الإدراك إلى الداخل فتنتج المعرفة بالإمكان الذاتي البشري ، و أن نَفَتْ وجود القَبْلِي و الفطري فيها .

و هذا تأليه للعقل و هو جوهر الحداثة .

لكن هذا التأليه للعقل سيصطدم بطبيعة الأصنام ، لأن طبيعة الأصنام ستسقط أن طال بها الزمان أم قصر ، بمعنى أن الكائن الذي يزعم نفسه إلهاً ، لا بد و أن يبهت باسئلة الحياة و أسئلة الفكر . 

العقل مع الديكارتية زعم نفسه إلهاً ، و هنا لا نقول ديكارت و إنما الديكارتية و أتباعها الديكارتيين كلهم .

ثم بدأ شيء من التشكيك من قبل الفلسفة التجريبية فيه ، في العقل ، فتمّ خدشه . 

بعدها من داخل العقلانية جاء شخص بمشروع يبدو في البداية انه مشروع إعادة بناء العقل ، فإذ به كشفٌ لنقص العقل ، و هو كانط ، حيث أوصل العقل إلى الحائط ، و قال له أن إمكاناتك محدودة في الظاهر فقط .

هذه الضربة الكانطية ستنتج فيما بعد مشروع ما بعد الحداثة .

⚘ لماذا يا مروان ؟ 

❤️ لأنه لو ذكرت لكِ يا صديقتي تيارات الفلسفة الحداثية ستلاحظين بأنها كلها محاولات تجاوز الحداثة .

⚘ كيف محاولات تجاوز للحداثة ؟

❤️ مثلاً من بداية منتصف القرن التاسع عشر ظهرت الماركسية ، الفلسفة الماركسية بماديتها الجدلية و ماديتها التاريخية تنتهى إلى ماذا ؟ 

⚘ إلى ماذا ؟

❤️ تنتهي يا صديقتي إلى أن العقل البشري ( أي الفكر ) نتاج علاقات إنتاجية اقتصادية ، و بالتالي لم يعد ذاك العقل إلهاً يحمل الحقيقة و معطياً لها ، صار بيد أدوات الإنتاج ، بيد الفأس و المنجل و إيقاع الآلة ، و هي التي ستشكل العقل .

⚘ هات مثال آخر يا مروان ؟

❤️ إذا بقينا في نفس القرن ( التاسع عشر ) سنجد في علم النفس سيجموند فرويد ، سيجموند يقولها لكِ صراحة و أن لم يعبّر بلفظ ( ما بعد الحداثة ) فأنه عبّر بمنطوقاتها كلها ، يقول في نص شهير له : 

أن الكبرياء البشرية ضُربتْ في تاريخ العلم ثلاث مرات .

⚘ باختصار من فضلك صديقي ؟ 

❤️ هو كذلك يا راما ..

أما الضربة الأولى فقد كانت على يد كوبرنيكوس ، عندما قال للإنسان ، أن الأرض التي تظن بأنها مركز الكون ، ليست سوى نقطة متناهية في الصغر ، دائرة و تائهة في السماء ، و أن مركز الكون ليس هو بيتك بل الشمس . 

⚘ فضربت النرجسية البشرية بهزّ اعتقادي في قيمة البيت الذي يسكنه الإنسان ، أي الأرض .

❤️ بالضبط يا صديقتي .. فقد توازنه و خاصة رجال الدين .. الذين تحركوا ضده فمات بسكتة دماغية بينما تلميذه غاليلو غاليلي فرجوه نجوم الضهر . 

⚘ هات الضربة الثانية ؟

❤️ و أما الضربة الثانية التي ضُربتْ بها الكبرياء البشرية ، ( يقول سيجموند فرويد دائماً ) ، فكانت من قبل داروين .

⚘ كيف ؟ 

❤️ لانه الإنسان قبل داروين كان يظن أنه متمايز و متميز عن الكائن الحيواني ، فجاء داروين ليقول له أنتَ سليل الكينونة الحيوانية ، و لا فضل لكَ عن الحيوان كفضلٍ مائزٍ خاصٍ ، و إنما أنت فقط درجة في التطور .

⚘ ضربه للإنسان في المقتل .

❤️ نعم هو هذا بالضبط ، رجال الدين فقدوا توازنهم أكثر .

⚘ بقي الضربة الثالثة هاتها باختصار يا مروان و لا تطيل الشرح القراء عم يتململوا من الإطالة ؟

❤️ أمرك أنتِ و القراء يا راما ، اشربي عصيرك راح يبرد .

أما ثالث الضربات للكبرياء البشرية فأنا صاحبها ، ( مو أنا ، يقول سيجموند فرويد عن نفسه ، يتحدث عن نفسه ، و هنا سنرى أن أرضية الحداثة بدأت تتكسر ) .

⚘ كيف و شو عمل فرويد ؟ 

❤️ كان الاعتقاد سابقاً أن العقل البشري هو مُنتج الحقيقة ، و هو أداة الإرادة ، و مُنتج المعنى ، فكشفتُ ( و الكلام لسيجموند فرويد ) إنّ العقل ما هو إلا جزءٌ بسيطٌ من كينونة النفس البشرية ، لا يشكل إلا جزء من عشرة ، و تسعة الأعشار الأخرى هي اللاشعور ، هي اللاوعي . 

ليس هذا فقط ، بل اللاوعي هو الذي يتحكم بالعقل ، و يقوده و يوجهه ، فصار العقل عبداً لّلاعقل ، بعدما كان إلهاً .

⚘ يعني هذا الرجل ( سيجموند فرويد ) ضرب الحداثة من المدخل السيكوليوجي ، بعد ما ضربها الأول ( ماركس ) من المدخل الاقتصادي ؟

❤️ نعم هو ما حدث ..

⚘ كمل ؟

❤️ ثم إذا اقتربنا يا راما من نهاية القرن التاسع عشر سنجد فيلسوفاً يموت في سنة 1900 ، في يوم السبت 25 اغسطس 1900 ، يعني على الحافة تماماً .

⚘ مَنْ هو يا مروان ؟

❤️ هو فيلسوف الهدم و المطرقة نيتشه ، الذي قال بأن أكبر خطأ في التاريخ البشري هو الأفلاطونية ( التي اقام عليها الدنيا و لم يقعدها ) .

⚘ اوووف ، ليش العصبية يا فريدريك ، لماذا ؟  

❤️ قال أكبر خطأ في تاريخ البشرية هو النزعة الافلاطونية ، لانه منها بدأ إعلاء العقل على الغريزة .

ثم جاء هايدغر ليقول إن اللغة تتحكم في العقل ، فصار تأليه جديد هو اللغة .

⚘إذاً ما المقصود بتجاوز الحداثة بعد كل هاد الحكي ؟ 

❤️ هو أن جميع فلسفات القرن العشرين و النصف الثاني من التاسع عشر حامتْ حول فكرة واحدة ، و هي إسقاط العقل من مرتبته ، إسقاط إله الحداثة ، و هذا هو معنى التجاوز ، تلك هي ارضيتها ، و هذه هي الأرضيات المتقافذة التي انتقل إليها الوعي ، نقول أرضيات متقافذة لأن ما بعد الحداثة ترفض أن تقف على أرض ثابتة .

⚘ اختم يا مروان ؟

❤️ في نهاية المحاضرة قال الدكتور الطيب بوعزة ان هذه المحاضرة القصيرة هي فقط مقدمة لنفهم طبيعة فلسفة ما بعد الحداثة ، و التي يقابلها في الادب و النقد التفكيكية .. بينما البنيوية في الادب و النقد يقابلها في الفلسفة الحداثة .