فخ ننصبه لأنفسنا
حينما تذهب لمقابلة عمل، تسعى جاهدًا لتبدو في أفضل صورة ممكنة لك، حتى تعطي انطباعًا إيجابيا، يصنع صورة ممتازة عنك وعن مهاراتك في المقابلة، لكنك وسط كل هذا الحماس والاستعداد، تغفل عن الثمن الذي سوف تدفعه، مقابل هذه الصورة المثالية التي تسببت فيها لنفسك.
المتنمر صار صديقًا
عندما كنت صغيرًا، كان زملائي في الفصل يلقبونني بألقاب لا يصح أن ينطق بها الكبار، ولكن هذا التنمر كان له تأثير خفي لم ألاحظه، إلا عدمنا حدث موقف غير نظرتي إلى كل ما يتعلق بالتعامل مع الناس.
في أحد الأيام، قرر أحد المدرسين الذي كان يدرسني بشكل خاص في البيت، أن يشرك مجموعة من الطلاب معي في نفس الدرس، بناءً على طلب هؤلاء التلاميذ، لكنهم لم يكونوا يعرفون أني أنا من سيستضيفهم في بيتي.
وبرغم أني اكتشفت أن أحدهم كان أحد أسوأ المتنمرين الذين تعاملت معهم في المدرسة، إلا أنه عندما دخل بيتي لم يتمكن من مضايقتي، وبالرغم من كل ما صنعه معي، وبسبب طبيعيتي المسالمة، ظننت أنه غير فكرته عني وبدأت التعامل معه بود، وامتلأ جو الحصة بالبهجة والضحك، بسبب أستاذنا الجميل ذو الظل الخفيف.
وفي اليوم التالي، ذهبت إلى المدرسة منتظرًا التعرض للإهانة كالمعتاد، لكني وجدت ذلك المتنمر الذي كان في بيتي ليلة أمس، يجتمع بالطلاب في الفصل ويخبرهم أنه لم يكن يتوقع أني بهذه الحيوية، والظل الخفيف، وأنه شاهد شخصًا مختلفًا عندما قابلني في بيتي، وكان سر هذا الاندهاش هو أني لم أكن أحب المدرسة، لذلك كنت منزويًا لا أكلم أحد ولا أكون الصداقات، وكان هذا مبرر بعض المتنمرين في إهانتي.
وبعدها قابلني هذا الفتى وسألني عن سلوكي المنطوي في المدرسة، رغم أني في غاية الحيوية في بيتي، فأخبرته أني لا أحب المدرسة، وقد كان يشاركني نفس الشعور، وصرنا صديقين من بعدها، وكان السبب الأساسي في تحول وجهة نظره عني، هو الانطباع السلبي الذي أخذه عني من البداية، فلو كان انطباعه عني جيدًا من البداية ما تغير أي شيء في علاقتنا، ولبقينا غربيين عن بعضنا.
المصلح صار مفسدًا
وعندما كبرت وبدأت أقرأ عن أهمية الانطباع الأول في العلاقات، كنت وقتها أمارس مجال تصليح الأجهزة المحمولة، بعد دورة درستها عنه، وكنت أعرض خدماتي على أقاربي، حتى أتمكن من التدرب على اجهزتهم، وكنت أؤكد لكل من يعطيني جهازه، أني سوف أصلح أي عيب فيه، وأنني متخصص في هذا المجال.
ومرة بعد مرة اكتشفت الفرق بين النظريات التي درستها في الدورة، والواقع الذي واجهني، فبعض الأدوات التي تدربت عليها على أنها أحدث ما جاءت به التقنية، اكتشفت أنها أقدم ما تم صنعه من الأساس.
وصرت إما أسلم الأجهزة لأصحابها قبل أن يتم تصليحها بالكامل، أو أتسبب أنا في إفسادها أكثر، وعندما لم أتمكن حتى من إيجاد أي وظيفة متاحة في هذا المجال، قررت الاستسلام للأمر الواقع، وهو أن هذا المجال ليس مجالي، لكن جاء هذا القرار متأخرًا، بعد أن تلقيت الكثير من نظرات خيبة الأمل من أهلي وأصدقائي ومعارفي، هذا غير التوبيخ وبعض المواقف المحرجة.
سباق لنا وبداية عندهم
وكان سبب كل تلك المشاكل هو الانطباع الأول الإيجابي الذي كونته عن نفسي في عيون الآخرين، وعن خبرتي في مجال لم أكن مستعدًا له بشكل جيد، ولم أتحمل حتى مسؤولياته بالشكل المطلوب.
وهنا تظهر معضلة الانطباع الجيد في شكلها الحقيقي، فنحن نبذل قصارى جهدنا في إقناع الناس بمواهبنا، حتى يعتقدوا أننا محترفون فيما ندعي، حتى نرتطم بالواقع ونكتشف أننا لم ننتبه إلى مستوى مهاراتنا الحقيقي، أو حتى نتوتر ونخفق بسبب سعينا المستمر للوصول إلى الصورة الذهنية الخيالية، التي رسمناها عن أنفسنا في عقول الآخرين.
إذا فالأمر بالنسبة إلينا سباق نحن من يضع له خط النهاية ويسعى إليه، ولكنه بالنسبة للآخرين خط البداية، الذي من المفترض أن يبدأ السباق عنده.
الفارق هو طريقة دفع الثمن
وهذا بعكس الانطباع السلبي الذي يقطع الأمل عند الآخرين في وجود أي موهبة أو منفعة منا على الإطلاق، بالتالي لا يوجد مضمار سباق أصلا، وهنا يبرز الفارق بين الحالتين:
ففي حالة الإنطباع الإيجابي: الشخص مطالب ببلوغ ما ادعى إمكانية الوصول إليه، دون مساعدة أو دعم، بل وينبغي عليه بلوغ المراحل التالية أيضًا، وعندما يخطئ يعاقب بشكل أشد من البقية، لأنه ليس من المفترض أن يخطئ من الأساس.
على عكس الذي قُطع منه الأمل، فأي سعي سوف يقدمه سوف يجد من يحاول دعمه عليه رغم ازدراء الآخرين، بسبب ظنه أنه سوف يحتاج دائما للمساعدة، ولكنه عندما يفاجئهم جميعًا بإنجاز مهما كان صغيرًا أو عاديًا، سوف يعتبرونه إنجازًا أسطوريًا مهولًا، لأنهم لا يتوقعون منه أي شيء أصلًا.
الناحج يسدد الضريبة الفاشل يحصل على الدعم
وهذه إحدى معضلات مشكلة التوقعات في حياتنا، إذ إن التوقع الإيجابي يبني صورة حسنة عن الذات عند الآخرين، إلا أننا قد لا نتمكن من سداد ضريبة هذا الصورة باهظة الثمن، فتتحول من حافز لنا، إلى حجة علينا، ونطالب دون رحمة بالوصول إلى ما ادعينا الوصول إليه، أو الرحيل.
بعكس التوقع السلبي الذي يبني صورة متدنية عن الذات عند الآخرين، مما يجعلهم يعاملوننا باحتقار، وقد يهزأون بنا وبما نحاول القيام به، لكن مع أصغر شرارة من الإنجاز تبرز منا، سوف يدفعهم هذا للدهشة وتغيير كل معتقداتهم عنا، وهذا لاننا سبق أن دفعنا ثمن هذا الإنطباع الجيد الجديد، في فترة الانطباعات السلبية.
لا بد أن تنتبه أين تضع لسانك
ولذلك تعتبر التوقعات والانطباعات أمورًا لا بد من التفكير فيها بعناية، عند التعامل مع الناس، لأن علينا أن ندرك جيدًا ثمن الوعود التي نقطعها، والانطباعات التي سوف نتركها عند الآخرين، فالانطباع الجيد ليس جيدًا عندما يكون مغلوطًا، والانطباع السيئ ليس بذلك السوء عندما يدفعك لتثبت العكس.
التعليقات