كلما حاولت تنظيم الكتابة وترتيب خطواتها في قالب منطقي محكم، أقف دائما أمام عقبة لا تنفك تظهر أمامي في كل مرة أختبر فيها أي نظام أبتكره لتوليد الخيال، وهي أن الإبداع عبارة عن كسر للقاعدة وخروج عن المألوف؛

صحيح أن لكل فن قواعده وخطواته، لكن تلك القوانين لم توضع لتنظيم الفنون أو ترتيبها، إنما جائت تساعدنا في بعثرتها ودعم حالة الفوضى التي تتميز بها الحالة الفنية الخالصة.

غذاء الخيال

هناك شيء واحد تعلمته خلال تجربتي القصيرة مع الكتابة، وهي أن الفنان ليس مهندساً ، نحن لا نعمل بدقة، بل إن استكشاف المجهول والغرق في الخيال هما السمتين الأساسيتين في أي عمل فني جميل، وكل محاولات الباحثين لدراسة الفن ما هي إلا محاولة لدراسة حالات فردية يعتمدون عليها لبناء أعمال فنية مقلدة تنسخ ما قد تم ابتكاره في أعمال سابقة، وهو ما يدعى النحت في عالم الفن وهو ما أوصلنا لكارثة الأعمال التجارية التي لا تهتم بعمق فكرة أو توليد حالة أو حتى إيصال رسالة.

الفن ليس منتجاً

وهذا لأنه ببساطة لا يمكن انتاج الفن الحقيقي في المصنع، الأعمال المقلدة أو المنحوتات الفنية ليست إبداعاً بل مجرد مسوخ قبيحة تغطى على جمال الأعمال الفنية الحقيقية وتخفض مستوى الذوق العام عند الجمهور المتلقي؛

لأنها تفسد أذواق الجماهير وتعودهم على مستوى معين من الخيال، فلا تعود الأعمال الفنية الإبداعية مبهرة للعامة من الجماهير لأن أذواقهم قد تلوثت بمخلفات مصانع الفن ومسوخها، فلم يعد الخروج عن المألوف مطلوباً بالنسبة إليهم وبهذا نحن نقضي على الفن من الأساس.

المال لا يصنع الفن

وكل هذا فقط بسبب رغبة رجل الأعمال اعمال في مزيد من الأرباح، وبهذا لا تعود المعاني السامية أو الإبتكارات الخالدة في الفن شيءً مهما بل المهم هو أن تجد ما تستطيع تقليده، حتى صار التقليد أصلا في الفن عوضاً عن كونه خطيئة.

الفن تعبير

لقد كان القداما يستخدمون الفن للتعبير عن أنفسهم، فصار فنهم خالداً على الجدران والأوراق والتماثيل حتى وصلت إلينا قصصهم وأخبارهم، ولم نجد حضارة من الحضارات تقلد اختها أو تنحتها، رغم تأثر بعضهم ببعض إلا أن شخصية كل حضارة منهم كانت بارزة في فنها.

الفن عابر للزمن

لماذا إذا نعامل الفن الذي هو طريقنا الوحيد لنقل ارواحنا عبر السنين إلى عقول وقلوب جديدة لن نقابلها لكنها ستجدنا مصدراً للأمل والإلهام، بتلك الطريقة التي إن وصلت لإحفادنا ستجعلهم يأسفون علينا وعلى ذوقنا.

الفن سلاح

والدليل أننا نحن نخجل من أهلينا حينما تشاهد صورهم القديمة أيام شبابهم بل ونزدري فنهم وحياتهم بأكملها.

فما بالكم بأحفادنا بعد آلاف السنين كيف سيحكمون علينا حينما يشاهدوا المهزلة التي خلفناها وراء ظهورنا، ماذا نعلم ابنائنا بتحويل الأم والابنة والأخت إلى سلعة إعلامية تستخدم جسدها لإقناع الزبائن بالشراء؟!

ماذا نريد لأبنائنا أن يتعلموا حين يرون بطل مسلسلهم المفضل تاجر مخدرات أو مجرم أو مدمن أو سفيه؟!

كيف لنا أن نقنع ابنائنا بالأخلاق والأدب وحب العلم حينما يرون ابطال أعمالهم المفضلة يعلمونهم أن المال يشتري كل شيء دون الحاجة إلى التعب أو التفكير؟

الفن سلاح لا يجرح الجلد ولا يكسر العظام لكنه يفعل ما تعجز عنه كل الأسلحة أنه يغير الوعي ويزرع الفتنة داخل الشعوب وبين افرادها.

الفن من أجل الشهوة

كل ما تحتاجه هو أن تضع جزرة أمام الحمار وتركب فوقه وسيبقى يمشى بك حتى يوصلك إلى مرادك دون أن يدري.

المال هو جزر الشعوب التي تتكون من قطعان الأجساد التي لا تفكر إلا في شهواتها ولا تبحث إلا عن ما يشبع تلك الشهوة، التي كلما لما اقتربنا منها تبتعد كالسراب تماماً في وسط صحراء لا ينجوا فيها أعظم المغامرين.

لا يمكننا أن نشبع من الحلوى لكننا لانطيق معلقة الدواء، رغم أننا لم نكن سنحتاج للدواء لو أننا بدلنا الحلوى بالخضار.  

لكن من يمكن أن يجسد لنا تلك المعاني في قالب فني جميل وساحر؟

من يمكنه أن يعالج كل ذلك التلوث الذي تلطخت به ارواحنا؟

قد يكون الفن علاجاً

لو لم نستخدم الفن في علاج مشاكلنا الداخلية والخارجية فلا معنى لأي شيء إبداعي نقوم به إلا أنه نحت من إبداع قديم.

الفن هو حالة احساس عميق داخل انسان جُسدت في صورة فنية لتسجل ذلك الإحساس الذي يتولد داخلنا فقط عندما يتعارض داخلنا الألم مع الأمل.

فنحن أكثر هشاشة مما نبدو وأكثر صلابة مما نعتقد.

لماذا تركنا التيار يجرفنا ناحية الشلال ونحن على علم بأننا في المسار الخاطئ؟!

هل نعتقد أن انتظار الموت حل لكل تلك الآلام والمعاناة؟! إذا فما معنى الحياة من الأساس؟

نحن من يختار

القرار لا يزال في أيدينا فنحن من نمسك بالريموت والهاتف والفأرة، إن كنا نريد أن تتحرر من كل تلك القيود سنفعل، لكن ما يخيفنا فعلاً ليس مقاومة أنفسنا، لكنها تلك الوحدة التي سنواجهها في طريقنا إلى الحرية، وآلام المخاض التي سنعالجها خلال عملية ولادة أرواحنا من جديد هي تقف عائقا بيننا وبين قرار المقاومة؛

فنحن نعلم ألا أحد سيدعمنا في قراراتنا، ولا أحد سيقدم لنا يد العود، وأننا سنمشى في هذا الطريق بمفردنا حتى نصل إلى مكان معزول عن الناس تشفى فيه ارواحنا، لكن صعوبة هذه الرحلة تجعل معظم الناس يفضل المصعد على السلالم حتى إن كان مزدحما.

الفن هو تجسيد للذات

لكن الفنان الحقيقي هو الذي يتمكن من تحرير نفسه من قوانين النحت الفنية ويغامر باستكشاف المجهول.

حينها فقط يظهر لنا الفن على حقيقته، مزيج بين الخوف والطمع.