بسم الله الرحمن الرحيم

رصيد من كل شيء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

إن كل امرئ لديه رصيد لكل شيء مقتنعٌ به, فلديه رصيد للأخلاق الحميدة يزيد وينقص, كما إن لديه رصيد لسوء الخُلُق كذلك يزداد وينقص.

وقصّة المرء مع الأرصدة التي لديه تبدأ منذ الطفولة المبكرة, فالطفل يسجّل كل شيء يراه ويسمعه وإن تكررت الأفعال والأقوال أمامه يبدأ بتقليدها, ومن هنا تنشئ لديه الأرصدة تُضاف إليها كل الأفعال التي يراها, والأقوال التي يسمعها, والمبادئ التي ينشئ عليها.

ومن شأن الأطفال أن يُصدّقوا أي شيء يُقال لهم فيقتنعوا به, وعندما يقول أحدهم للطفل أي شيءٍ أيّاً كان فإنه غالباً ما يصدّقه على الفور, فإن وعده أحدهم بأي شيء فإنه لا يراوده أي شك بأن هذا الآخر سواءً أكان طفلاً أم بالغاً سيفي بوعده, فإن أوفى الآخر بوعده له, وكان في هذا الوعد منفعة يحبها الطفل, ذاق الطفل حينها جمال الوفاء بالوعود وأحبها قلبه وقد ينظر إلى من أوفى بوعده معه وكأنه إنسان نقي, وعلى قدر إعجابه به تترسّخ هذه الصفة التي بدرت من هذا الإنسان وهي الوفاء بالوعود في قلب الطفل, وقد تبقى محفوظة في قلبه طيلة عمره. وسيصبح لدى هذا الطفل رصيد خاصّ بالوفاء بالوعود يزداد مع كل مرة يرى أو يسمع فيها الوفاء بالوعود فيزداد إعجابه بصفة الوفاء بالوعود ويزداد تعلقه بها, وينقص الرصيد كلما شهد على إخلاف الوعود أو سمع عنه, وإن صادف هذا الطفل موقفاً أوفى هو فيه بوعده زاد رصيده, وإن حدث وأخلف بوعده مع أحدهم فسينقص لديه الرصيد, مما يجعل صفة الوفاء بالوعود تنقص أهميتها في نظره, وتزداد عدم مبالاته بها. ولكن لن تكون أفعاله ذات شأن كبير في نفسه ما دام لا يزال صغيراً ولكن عندما يكبر قليلاً ويصل إلى مرحلة المراهقة, وكان رصيده من الوفاء بالوعود كبيراً, فإنه سيطمح على أن لا يخلف وعوده, وسيصطدم بالمواقف المختلفة التي تجعله يُعيد تفكيره في أهمية الوفاء بالوعود, بعد أن يرى صعوبة الوفاء بكل وعوده, فإن بدأ هذا المراهق بإخلاف وعوده فسيقل رصيده في الوفاء بالوعود في نفسه, وقد يستمر في إخلاف الوعود وتربية نفسه على ذلك, حتى يبدأ يرى الوفاء بالوعود يحدث أمامه مجدداً أو يقرأ عنه فقد يرتفع رصيده مجدداً, ومن ثم يُعيد تقييم هذا الخُلُق الرفيع في نفسه, وكلما كان لديه في ذكرياته مواقف عن الوفاء بالوعود كلّما حاول التمسّك بهذه الصفة, والعوْدة إليها, وحينها قد يعود إليه رصيده الذي نقص عنده, ويستعيد الشعور بأهمية الوفاء بالوعود, ولكنه يبقى لا يبالي كثيراً بالمواقف التي أخلف وعوده فيها, ويهتم أكثر بوفاء الكبار بوعودهم, وقد تستمر نظرته تلك معه حتى يكبر وينضج قليلاً ثم سيبدأ بالتأثر كثيراً بالمواقف التي يفي بها بوعوده أو المواقف التي يخلف فيها بوعوده.

وعندما ينضج أكثر هذا الشاب, سيبدأ بتقييم صفة الوفاء بالوعود بالاعتماد على ما تعلّمه ورءاه وعلى الذكريات التي يحملها في نفسه من طفولته وماضيه عن هذه الصفة, فكلما كانت المواقف التي شهد فيها الوفاء بالوعود أكبر وأقوى وأكثر, كلما كان رصيده قابل لأن يزداد بسرعة ويستوعب طموح هذا الشاب في الوفاء بوعوده, فيبدأ رويداً رويداً بتقليد من أوْفوا بوعودهم وكلما تمكّن من تقليد أحدهم سيزداد رصيده وسيتمكن من أن يستوعب طموح أكبر وهو أن يفي بوعوده في مواقف أصعب قليلاً, قد لا يكون شهد على مثلها من قبل, فيبدأ بالاجتهاد بنفسه وزيادة صفة الوفاء بالوعود في نفسه, وترسيخها في قلبه.

 وإن رأى الطفل تساهل الكبار في وعودهم وإخلافهم لها مراراً سيكبر وهو مقتنع بأن مطالبة الآخرين بالوفاء بوعودهم أو انتظار أن يفوا بوعودهم ما هي إلا أفكار طفولية ليس لها مكان في أرض الواقع وفي عالم البالغين. فمن يظن أن الطفل لا يعي شيئاً وكل أفكاره لا شأن لها فهو على الأغلب مُخطئ, لأن الطفل هو أكثر من يسجّل كل شيء يراه وما يتكرر أمامه يترسّخ في قلبه وذهنه أكثر فأكثر. وذلك حتى يقوم بتقليد غيره خاصّةً الكبار ليساعده ذلك في نموّه. وكذلك يكون الأمر مع كل الأرصدة الأخرى, مثل التعاطف مع الآخرين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتعويد النفس على الصدقة, وعلى سائر الأعمال الصالحة.

وكما أن هناك أرصدة لكل أنواع الخير والأعمال الصالحة تزيد وتنقص, وتزداد معها رغبة المرء في القيام بالأعمال الصالحة وتنقص, فإن هناك ايضاً أرصدة لمختلف أنواع الشر والسوء تزداد وتنقص لدى المرء, فمن أعتاد على شتم الآخرين بألفاظ معيّنة, ولم يحاول منع نفسه وإيقافها عن هذه العادة السيئة, فسيبدأ بالتقاط الشتائم الأخرى التي يسمعها ليضعها في قائمة الشتائم التي يتلفّظ بها, فيزيد بذلك من رصيده في التلفّظ بالشتائم, ويعتاد أكثر على التلفّظ بشتّى الشتائم والألفاظ البذيئة, مما يجعله يتساهل بها ويبدأ بالتلفّظ بها في المناسبات المختلفة, وقد أصبحت تلك الشتائم سهلة عليه وتجري بسرعة على لسانه ينطق بها في المواقف المختلفة دون أن يُبالي, ولكن كلما جاهد نفسه على التوقف عن التلفّظ بالشتائم كلما نقص رصيده من هذه الشتائم, وصعُب عليه التلفّظ بها. وبالتالي بإمكان المرء أن يزيد من أي رصيد لديه بكثرة استخدامه ويستطيع أن ينقص من أي رصيد له بإهماله والتقليل من شأنه... هذا والله أعلم.