"فما الواقِع إلّا ما تراه؛ لا ما يقع في الحقيقة"، "وما الحقائق إلّا ضرب من اللاشيْءِ رضينا أن يكون حقائقنا"

أريدنا اليوم أن نَنْتَـقِل سويّاً إلى فَـلكٍ معرفيٍّ ذي شجون؛ نتسائل فيه عن حقائقنا التي تصالحنا معها على أن تكون الحقائق الصامدة عبر الحِقـَب، والثوابت التي نرتكز عليها أثناء تحركنا في روتينِنَا اليوميّ. ولنبدأ بمثالٍ عساه يصنع قفزتنا النقاشيّة -التي تدخلنا صلب الموضوع- وليكن مثال النعامة:

فلقد شاع في مخيالنا الشعبيّ (المغلوط) أنَّ النعام مخلوقات محدودة الذكاء؛ تضع رأسها في الرمال عند حومان الأخطار حولها، وضرب لذلك مخيالنا الشعبيّ الأمثال والأخلاق في التنفير من سلوك طريق النعام حتى قال القائل: "لا تدفن رأسك في الرمال كما تفعل بهيمة الأنعام". لكنّ كلّاً من الدارس لعلم الأصوات، والمبتدئ في الفيزياء، والمُطالِع لقوانين انتقال الموجات يستلقي على قفاه (ضحكاً) حين يسمع هذا المثل وأمثاله، فهو يدرك أنّ النعام جنس حاد الذكاء، يدس أذنه في الرمال ليكبّر أصوات محيطه، ويحدد بالضبط موضع هجوم عدوّه، بآليات ووسائل يعرفها المختصون والمهتمون بهذا النوع من المعرفة. 

ومن هنا، يمكننا استحضار أحد النماذج المعرفيّة التي فسّرت (بشكل أقرب ما يكون إلى الدقة) رحلتنا بين الحدث الخارجيّ والاستجابة السلوكيّة. فلقد اعتدنا بداية الأحداث بمتغيّرٍ في عالمنا البرانيّ، تستقبله أحد حواسنا الخمس (أو أكثر)، ثم تعالجه العقول بطريقةٍ لا نفهم زواياها بالضبط، إلى أن نُحدِث سلوكاً في العالم البرانيّ مجدداً؛ ويكأنّ الوجود الخارجي يوظِّفُنا كمحطة معالجة! لكنّ نموذجنا المعرفيّ -الذي أرفقت صورته بالمقدمة- يرى الرؤية السابقة قد اهتمت بكل ما لا قيمة له (نسبيّاً)، وتناست أهمّ ما في الرحلة، ألا وهو محتويات العقول المعالِجة. فعملية المعالجة ستَتِمُّ ستتم، لكن العبرة بكيفها وتأثيرها، والعبرة بالمواد الخام التي تملكها العقول للقيام بهذه الوظيفة المعقدّة المُقعِدة! فمرشِّحاتنا الفكرية واللغة ومفهومنا عن الزمكان وذكرياتنا وأخلاقنا ومرتكزاتنا الاعتقاديّة؛ كلّها مواد خام تصنع الطبخة وتؤثر فيها، لتنشئ حالة سيكولوجيّة، تعقبها استجابات فسيولوجيّة.