حريق مِنَى الكبير:

في عام 1997 الموافق 1417 هجري ذهب والداي لأداء فريضة الحج، لم يكن هناك من أبقى معه فأخذاني معهما وكنت أبلغ من العمر تقريباً ثمانية أعوام.

كنا نسير أبي وأنا وأمي وامرأتين تعرفنا عليهما في حملة الحج: ميمونة وفضيلة المغربية، كنا عائدين إلى خيمتنا في منطقة منى ثم رأينا خطّ دخانٍ رفيع في الأفق، كانت الخيم حينئذٍ مصنوعة من الشَّعر لا من مواد مضادة للحريق كما في الأيام الحالية، سمعنا أصوات انفجارات متتالية خفيفة ثمّ بدأت كتلة نارية تمتد وتتوجه نحونا بشكل سريع جداً لا يكاد يُصدّق. كانت سرعة اشتعال الخيم لطبيعة مادتها وانتشار ما يعرف بسخّانات الغاز الصغيرة التي يستعملها الناس لصنع الشاي - حيث تحولت في تلك الحالة لقنابل صغيرة - تسرّع من انتشار الحريق، كان هذان العاملان من أسباب تحول المكان لبقعة من جهنم حرفياً، كانت خيمتنا في منتصف منى والحريق كان من الخيم الخارجية متجهاً نحو المنتصف، شكّل الحريق طوقاً من نار علينا، كنا نركض بكل اتجاه محاولين إيجاد منفذ ما، فنجدنا نحاصر بشكل أكبر من الحريق، رأيتُ العديد ممن تعثّر وسقط فالتهمته النار حرفياً. رأيت العديد من الناس يتأخرون في عملية الهرب لأنهم أرادوا ان يحزموا متاعاً معيناً أو جلب المحفظة! رأيت الإنسان بأصدق نسخه ورأيته يتحوّل لمصارع بقاء. من الأشخاص الذين لا أنساهم أبداً رجل هندي كنا نركض باتجاه المنتصف هرباً من حلقة النار الكبيرة خلفنا وهو ماكثٌ بهدوء في خيمة مررنا بها، والدي صاح به أن تحرّك.. قم..افعل شيئاً.. مدّ له يده فصار الرجل يصرخ بوجه أبي ويقول له: دعني أريد أن أموت شهيداً، يحدثنا أبي عمّن يظنّ أنه أحسن صنعاً وهو ظالم لنفسه ولغيره ويستشهد بهذا الرجل الذي قتل نفسه ظلماً وهو مؤمن أنه شهيد.

تعلمت بسببه ألّا أثق بما أؤمن به بشكل متعصب لأنه ببساطة قد أظنني من المفلحين وأنا في حقيقة الأمر من الهالكين.

عودة لما حصل: استمرّينا في الهرب إلى المنتصف حتى تم حصارنا بشكل كامل بحلقة من نار وبدأت الناس بشكل هستيري تسجد وتتشاهد، كان الموت قادماً لا محالة، الناس على أطراف المجموعة بدؤوا بالاحتراق وذهب أبي لينقذ أحدهم وعاد بعد فترة حاملاً إياه إنما بشكل مشوه لدرجة كبيرة، لحظات وفارق الحياة اتمنى أن يغفر الله له ويرحمه.

تعلمت معنى أن تُغلق عليّ حرفياً كل منافذ الأرض إلا جهة السماء.

أعتذرُ عن الوصف الأليم لكن لا أظن أن ألماً في هذه الحياة يوازي ألم الحرق مما رأيته في ذلك الوقت.

أظنه كان وقتاً وجيزاً بالنسبة لمن كان في خارج المكان أما لنا فقد كانت كل دقيقة تعني مزيداً من الوفيات واقتراباً من الموت المحتم وعمراً ممتداً بطيئاً.

لاحقاً أدركت أنّ الزمن أمرٌ نسبي يمتدّ ويَقصُر بحسبِ الشعور لا بحسب الثواني والدقائق.

اتحدّ الناس على اختلاف جنسياتهم بطريقة غريبة وكان هناك الكثير من العناق والبكاء والحب!

سمعنا اقتراب صوت الطائرات المروحية وبدأت أصوات المنقذين تطلب منا أن نغلق أعيننا ونتكوّم على أنفسنا؛ حيث سيقومون بإطفاء الحريق من الطائرات باستعمال مادة شبيهة بالمسحوق الأبيض وهي مؤذية للجلد غالباً، فعلنا ما طلبوا وبعد دقائق هي في حقيقتها سنوات بدأت الطائرات بالأفول وحضرت طائرات أخرى لتلقي أكياساً من الماء والأرز والخبز. كان يوماً عصيباً فقدنا فيه الكثير.

واستمر أبي بحملي على كتفه والبحث عن جثة فضيلة المغربية لمدة 48 ساعة بلا نوم في النهاية استسلمنا لفكرة موتها واتصلنا بأهلها في المغرب، علمت يومها معنى أننا كعرب قد نختلف في كل شيء وعلى كل شيء إلا في الموت، تعلّمتُ حينها أنك حين تسند من لا سندَ له بدافع الإنسانية والرحمة يسخّر الله تعالى لك فيما بعد من يحميك ويحنّ عليك لنفس الدافع.

تقريباً حين يتحدث الناس عن يوم القيامة لا التفت إليهم، مهما بلغوا من خيالات فإنهم لن يدركوا يوماً معنى أن تكون محاصراً بحلقةٍ من نار عظيمة فتظهر خصالك الضعيفة البشرية الهشة على أصولها. كل هذا الجبروت سيتحول يوماً ما إلى رماد، فلا داعي للتكبر.

لهذا الحادث أثر كبير علي في تقدير معنى عدم الاعتياد على الحياة..ليس أمراً عاديا أننا أحياء ليوم آخر.. كثيرون لم ينجو اليوم!

لم أتحدث لأحد من قبل عن هذه الحادثة بهذا التفصيل، وقمت بتجاوز بعض التفصيلات رحمة بالقارئ، ترددت في نشر الجواب لكن أليست كورا مكاناً لنشر الخبرات الإنسانية =")

أتمنى حياة آمنة للجميع.

المصدر:

الاجابة ل

آلاء الرحمن أبو عرب