قد يظن البعض ممن يقرأ كلماتي الآن أن الفكر والإبداع ينبع من التجارب أو التأمل أو التفكر وما شابه ذلك، والحقيقة غير ذلك. أحبتي، الأمة العربية هي أمة مجبولة على قوة الفِكر عندها، حيث أن الله عز وجل قد منّ عليها بقوة وحذاقة الفِكر. نعم، لا تتعجبوا، فكلنا لدينا ملكة الفِكر والإبداع بنفس القدر. وقد يسأل البعض منكم: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا هذا التفاوت الملحوظ بين فِكر وإبداع الناس؟ والإجابة على هذا السؤال سهلة للغاية، وهي مَكمن مقالنا هذا. فالفِكر والإبداع مكنون داخل الجميع، والفرق الذي نراه في تفاوت الناس في فِكرهم وإبداعهم بسبب أن هناك من استطاع إخراج هذا الفِكر والإبداع المكنون داخله، وهناك من لم يستطع ذلك. وسبب ذلك أنه لا يعرف كيف يخرجه. ومهمتي في هذا المقال تحديدًا تتمحور حول كيفية إخراج ذلك الفِكر المكنون داخلك، والحل الوحيد لإخراج ذلك الفِكر هو **توسيع مداركك اللغوية!** أو بمعنى آخر، توسيع وتضخيم محصلة المفردات في اللغة لديك. وكلما كانت مفرداتك اللغوية كثيرة، كلما زادت مداركك الفِكرية والإبداعية. وكيف لا، والإنسان يفكر بكلمات وجمل، فكلٌ منا يفكر بقدر محصلة المفردات اللغوية التي يمتلكها. فكيف به إن لم يملك الكثير من تلك المحصلة؟ وحتى تتشرب الفكرة، فهذا الأمر أشبه بمرحلة الطفولة. فلو نظرنا إلى الطفل، سنرى أنه يفكر ويتكلم وينفذ بقدر محصلته اللغوية. فهو يتعامل مع محيطه والأشخاص حوله بقدر هذه المحصلة. وهذه المحصلة أحبتي هي ما تجعل عقولنا تنضج عما كانت عليه. فعندما نكبر، نرى أننا كنا غير عاقلين أو مدركين لأشياء كثيرة، وعندما نكبر وتزيد محصلتنا اللغوية مع مرور الوقت والزمن، نضحك عما كان يصدر منا من أقوال وأفعال. فكل إنسان مولود وهو مُكرّم، كما أخبر بذلك المولى عز وجل في قوله: **{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}**. فنرى أن أكثر ما يبهرنا في الأطفال نطقهم ببعض الجُمل والكلمات المفيدة. فكما ذكرت لكم، أننا جميعًا لدينا ذلك الفِكر الرائع، وهو موزّع بالتساوي بين الناس. لكن هناك من استطاع إخراجه، وهناك من لم يستطع. ولهذا نرى الكثير جدًا لديه من الأفكار والإبداع ما الله به عليم، وهو مكنون داخله ويشعر به، وقد تغلغل في أعماقه. وتجده يقول: لا أعرف كيف أخرج ما بداخلي ويجول في خاطري وأعماقي. بل إنه عندما يحاول إخراج تلك الأفكار والإبداعات التي بداخله، تجده قد أدلى بدلوٍ غير الدلو الذي يريد. فالأفكار مكدسة في العقل وتحتاج أن تخرج. ولهذا تجد أن ذلك الصنف من الناس تلح عليهم نفسهم بإخراجها، وتبدأ بالتفكير كيف السبيل لهذا. لتجد نفسك في حرب داخلية لمحاولة إخراج تلك الأفكار. ولا عجب إن قلت لك أنه ربما هذه الحرب الداخلية قد تنقلب ضدك وتتسبب في ولوجك في مرض (الاكتئاب) حفظنا الله وإياكم. وهذا ما نراه عيانًا بيانًا. وهذا من الأسباب التي تؤدي للاكتئاب، وليس السبب الرئيسي، بل أنه لم يتحدث عنه أحد أو يسلط عليه الضوء. فنرى الآن أن هناك فئة من الناس قد انعزلت وأحبت الوحدة، والسبب في ذلك إن سألت أحدًا من هؤلاء عنه هو سبب عجيب في نظري، وهو محور مقالنا. وهو أنه يشعر أنه لا أحد يفهمه، وأنه يرى أنه مختلف عن الكثير من الناس، وأنه يرى العالم بطريقة غير التي يراها غيره. وفي الحقيقة، من يراهم هذا الشخص هم عكسه تمامًا، وهم تلك الفئة التي قتلت وقضت وتجنبت تلك الأفكار المكدسة داخلهم تمامًا. فتري تلك الفئة طائشين ولا يبالون لأي شيء، وينفرون من أي شيء علمي. أما عن تلك الفئة التي أُصيبت بالاكتئاب بسبب عدم استسلامهم في محاولة إخراج تلك الأفكار، على عكس الذين استسلموا، هم فئة حسنة وجميلة وعبقرية تحتاج فقط لأحد يقدح لها حلًا لما تعاني منه. والحل يا عزيزي هو فيما ذكرنا. فإن كنت يا من تقرأ كلماتي الآن تعاني من هذا، أو تعرف أحدًا يعاني من هذا الذي أسميه الاكتئاب الحسن، فأرشده لذلك الحل الذي يتمحور حول السعي لزيادة الحصيلة اللغوية الخاصة به ليستطيع إخراج الدفائن التي تكمن في داخله. ولتحصيل أكبر قدر من المفردات، فكما هو المعروف عليكم بالقراءة في جميع مجالات العلم بمختلف فروعها. ومن لا يقوى على القراءة، فهناك حل أجمل وأسهل، وهو الاستماع لكل الناس بمختلف ثقافاتهم، سواء في حياتك الطبيعية أو الاستماع للناس على منصات التواصل الاجتماعي ممن هم مقدمين لعلوم مختلفة، من علوم طبيعية وعلوم ربانية، في محاولة منك لجمع أكبر قدر من المفردات والمعلومات في جميع مناحي الحياة وعلومها المكتشفة وغير المكتشفة، ثم إعادة تدويرها وتأهيلها لخدمتك، أي (المفردات). فخذوها قاعدة أنه هناك علاقة طردية بين المفردات اللغوية وبين الإبداع والفكر القوي. ومن هذا المنطلق نرى جمال وعظمة اللغة العربية التي اختارها الله لتكون مهدًا لأعظم أمة وأعظم نبي وأعظم كتاب أنزله بلسان عربي مبين. فاللغة العربية يا أحبتي تحتوي على ما يزيد عن 12 مليون كلمة، أي ما يعادل 25 ضعف كلمات الإنجليزية التي تحتوي على 600 ألف كلمة فقط! ومن هنا نستنتج أمرًا في غاية الجمال والروعة تحت ضوء ما ذكرت لكم، وهو ما لم يلتفت له أحد، وهو أن الفِكر والإبداع في الشعوب العربية يفوق الفِكر والإبداع لدى شعوب الغرب بأضعاف يمكننا أن نقدرها ب 25 ضعف، كما في عدد المفردات. لأننا بينّا أن هذا يعتمد على الحصيلة اللغوية الخاصة بكل طرف. ولكن ما جعل الغرب الآن يتفوقون علينا في إخراج هذه الأفكار والإبداعات هي اهتمامهم بمنابع المفردات من طرائق تدريس ومنشآت تعليمية في شتى المجالات لتأهيل الشباب والأطفال عندهم لتنمية تلك الملكة عندهم. ولا عجب في ذلك يا عزيزي، فمناهج التدريس وطرقه ومنشآته في أغلب الدول العربية في الحضيض. وأرى والله أعلم أن هذا شيء ممنهج من قِبل الحكومات والسلطات العربية. ألا ترى يا عزيزي القارئ أن الإنسان يولد جاهلاً حتى يُسارع أهله بإلحاقه إلى المدارس، فتجده بعد التعليم يتحول إلى إنسان غبي، وهذا الأغلب. وهذا يا أحبتي يرجع إلى منهجية طرق التعليم وتقلباته. والحكومات تريد الأغبياء حتى تستطيع أن تحكمهم. فلو أصبح الشباب واعيًا بالقدر الذي فُطر عليه، لما كان هذا حالنا. فكوننا عربيين مُكرمين، فجانب الفطرة لدينا قوي جدًا في استنتاج بعض الأمور التي قد تنقلنا إلى ما هو أسمى. فإذا ما أحضرت شخصًا عربيًا وشخصًا أجنبيًا، حتى تجد أن العربي قد تفوق على الأجنبي في أمورًا كثيرة من القوة البدنية والدهاء، لأن البيئة التي تربى فيها العربي هي بيئة عملية مكثفة، على عكس الأجنبي الذي يقضي كثيرًا من فترة طفولته مدللًا. فالأمة العربية أحبتي أمة عزيزة قوية في عاملين هم الأخطر والأهم، وهما ((قوة الكلمة)) و((قوة القتال والخوض في الحروب)). وتلك القوة الثانية لن أخوض فيها كثيرًا، فمن ينكر قوة الدول العربية القتالية والحربية إنسان جاهل لا يعرف تاريخ تلك الأمة وما أنجبت. لكن سيكون كلامي ممحور حول القوة الأولى، وهي قوة الكلمة. فكلنا يعلم القصة التي بها من قوة الكلمة ما زلزل شعوبًا وإمبراطوريات عملاقة، وهي قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، حينما بعث كتابًا إلى كسرى ملك الروم قائلًا فيه: "أسلم تسلم، وإلا جئتك برجال [[يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة]]". انظروا أحبتي في مدى اختيار وانتقاء المفردات التي ما أن وصلت إلى كسرى وسمعها حتى فَجِع وارتجف، وأرسل إلى إمبراطور الصين يطلب منه النجدة والاستغاثة، قائلًا له: "أرسل لي النجدة، لقد بلغني تهديدًا من خالد". وما أن سمع إمبراطور الصين المفردات التي كتبها خالد بن الوليد لكسرى حتى ارتجف الآخر وقال لكسرى: "لا قِبَل لي برجال >>《لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها!》". فبكلمة منك يا عزيزي، أو بضع كلمات، يمكنك زرع الرعب في قلب أي شخص، أو حتى قتله. وهنا أنا لا أبالغ أبدًا، فكم من إنسان قتلته كلمة من إنسان مثله، فأدت به إلى الانتحار وجعلته ينهي حياته. بل وبكلمة منك أو بضع كلمات، تجعل الشخص يفكر بك آناء الليل وأطراف النهار، أو تجعل أي شخص يحبك حبًا جمًا، أو العكس. ولا شك أن ذلك يتطلب مهارة وذكاء وكثرة اطلاع، كما ذكرت من أسباب. فلا تستهينوا أبدًا بالكلمة، فالكلمة هي كل شيء. وحياتنا كلها دون استثناء قائمة على الكلمة. وخذ ما بجعبتي حول تلك الفكرة، فها هو آدم عليه السلام عصى ربه، ثم ماذا؟ قال تعالى: **{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ ((كَلِمَاتٍ)) >> فَتَابَ عَلَيْهِ}** [البقرة: ٣٧]. كلمات يا عزيزي، ركز ماذا فعلت؟!! تاب الله عليه بها. فبكلمات حدث أعظم شيء، وهي توبة الله على العبد. بل أن هناك أمرًا آخر وسرًا جليلًا في هذه الآية يوضح لكم بعضًا من أسرار الكلمات وأثرها ومصداقًا لما نقول. ففي قراءة ابن كثير للآية السابقة، قرأ "آدم" بالفتح وليس بالضم، أي حوله من فاعل لمفعول، وقرأ "كلمات" بالضم، أي حولها من مفعول لفاعل. وكأن الله يقول أن الكلمات هي التي تلقت آدم من محنته تلك فأخرجته منها. ولله طلاقة العظمة، وله كل شيء. فأيضًا الله له شأن عظيم في الكلمات. ألا ترى أنه جل جلاله يفعل ما يشاء ب (كن) فقط!! كلمة. وهذا عوضًا عن الدعاء وتغير الأحوال به. ما هو الدعاء؟!(كلمات!). بل أن كلمة واحدة فقط ربما تكبك في نار جهنم، والعياذ بالله. نعم، فهذا قول المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، وليس قولي، عندما قال لمعاذ رضي الله عنه في حوارهم عندما سأله: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا ((حصائد ألسنتهم))". فالكلمة يا عزيزي تفعل كل شيء، بما تحمله الكلمة من معانٍ. وأنا أعي ما أقول جيدًا. بل إن الصلاة التي نصليها ما هي إلا كلمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنها عبارة عن ((تكبير ودعاء وتسبيح وقراءة قرآن)). لاحظوا أن كل تلك الأمور هي فقط (كلمات). فنحن نتعامل في كل شيء بالكلمة. فهي ما تُسير تلك الحياة. // افعل ذلك فتفعل فتغير أمرًا ما. // لا تفعل ذلك فلا تفعل فتحافظ على أمرًا ما. 《الكلام》> حول هذا الأمر يطول جدًا، لكن أعتقد أنكم الآن أدركتم شيئًا من قوة وخطورة الكلمة التي تستطيع بها أن تفعل كل شيء. وكونكم الآن أحبتي عرفتم هذا السلاح وبعضًا من أسراره وخفاياه، أتمنى أن تُحسنوا استعماله جيدًا. فأكثروا من حصيلتكم اللغوية، وتعلموا كيف تُحسنون استعمالها. ولتضعوا نُصب أعينكم حديث المصطفى بأبي وأمي هو صلوات ربي وسلامه عليه عندما قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)). وهذا لأن الصمت سلامة من كوارث وطوام، كما أوضحنا ذلك. دمتم سالمين متفكرين.