ما إن تشرع الكلمة في الهُروب من قفص صَدري احتجزها، وتبدأ مصادقة الشفاه على الكلام العابر من خلالها، فترسم كلمات تُجيد سرقة الحزن من جيوب المنهكين، وما إن تبدأ معانقة حِبر الكاتب للورق المُغتر ببياضه، فتُحكم نصا ساحرا لعيونِ بهت بريقها، وقلوبِ ما عادت تُبالي، فتتشكل المُفردات وتصطف خَلف بعضها بعضا، فتغدو سِلاحاً في جيوب الأرواح التواقة للجهاد في سَبيل نفسها، فتتخذ لها موقعاً في مُقدمة الحَرب النفسية بَين الأرواح البشرية، ومكاناً في طليعة جيوش الحرف الثائرة.

فتارة يغدو الحرفُ حُساماً قاطعاً، وطورا تُخبئ الكلمة خَلف ظَهرها خِنجراً مسموماً، فتقتحم الكَلمة المنسوجة بإحساس كاتبها، ورسمه للحروف، حُصونا لقلوب شُيدت منذ زمن أغبر، بعد إعصار سابق من الكلمات المنتقصة كان قد داهمها، فتُصبح الكلمات رِداءَ لأرواح عَرتها عبارات سابقة، وزمزماً على واحات قلب أضنى مهجته العطش للكلمات المُحفزة، وترياقاً لأرواح عبثت بها أدوية مَسمومة، نفثتها في أوردة الهمم ألسنة شيطانية، ارتدى أصحابها ثياب الفضيلة، فتهوي كَلماتهم المُلطخة بوحول البؤس، بصدر مُستقبلها إلى مستنقعات الاحباط، ويأتى الحرف مُرتدياً زي الطبيب المُداوي، فتعرج كلمة مُعطرة بمسك الجمال، بروح مُتلقيها إلى القمم، فتكون كُقبلة على أرضية قَلبٍ، لم يغترف شيئاً من بحار تذوق معنى الحرف، وكَمورد عذب لمصبات نهر أرواح كادت تجف، فقيمة جيوش الحرف في معركة التأثير قيمة لا تُنكر، فإن دَوَّنْتَ أبهَر، وإذا استقر في النفس أثر، فإن نطقت به أصاب، وإن سُئل على حين يأس أجاب.

ثمة كلمات عَبثية تٌقال لتهدم، وأخرى تحاول أن تُرمم، فاختاروا الكلمات التي تُرقص الأرواح، وتؤنس جنود النفس بسماعها، بَدلاً من أن تُلبسوها ثياب السَواد، بكلمات مُنتقصة بَلهاء، فَكم مِن فكرة تزينت بطوق الكلمات البهي، وكم من كلمة قيلت، حطت بصاحبها من مكان عَليّ، فالنفس تُترجم الكلمات، بحسب معجمات حاجتها، وتقوم بتأويل العبارات، بحسب دساتير تعطشها، فكم من كلمات أتت على أطراف قَلب خُيل لها أنه مات، بعد أن زارته مُفردات سابقة ألبسته كَفن البؤس، فتتقمص الكلمة دور أجهزة الإنعاش، مُلقية تراتيل البعث النفسيَ، وكم مِن حرف أقام من احترف الفقد مِن مقعد عُزلته، فيرتدي الحرف لباس الغَزل، مُراعيا الضرورة العاطفية.

ولعَمري فإن الكلمات في جيوب القوافل الأصيلة، تعرف طريقها جيدا إلى القلوب التي ضاقت ممرات العبور إليها، وهي كلمات طالما افتقدتها، بسبب الكمائن التي تكاثرت في سُبلها، فتكون بمثابة مرساة رُميت في آبار من افتقروا إلى أن تقف الحروف بجانبهم، وأن تحط مُربتة على هموم قد ناءت بها أكتافهم، أو تكون كالسماد في تربة عبثت بها أقوال الآخرين، ولم تُفسر إلا سَلبا بتفاسير المحزونين، ولم تُعرب إلا ضماً بلغة المعشوقين، وكسراً في لغة الفاقدين، فكم من كلمة بعثت أرواحا في مدارس الإرادة، وكم من كلمة عكرت صفو من كان على مقاعد الراحة، وكم مِن كلمة كانت سُماً سرى في خلايا هِمم النفس، وكم مِن كلمة بدل أن تُحببنا باليوم، أعادتنا للأمس.

فلتبقى رائحة سموم الأفاعي في أركان جُحورها، ولتزر حُروفنا وكَلماتنا كُل قَلب عليل، كبرقية دَخيلة وُجدت مِن غير موعد في صناديق بريد أرواحهم، وبداخلها وصفة طبية في أحد سطورها، فلتكن حروفنا التي ننسجها مُذيبة لجليد قلوب بات الحزن يتزلج عليها، فلا قيمة للحرف الذي نرسمه، إن لم يتبعه رسم على قلوب قارئيه.