أن تدخل كليّة لا تعجبك أمر مفهوم، لكن أن تستمر فيها بعد أن تأكدت بالدليل القاطع أنها لا تناسبك فهو أمر غريب. قد تزول غرابته حينما تدرك أنك لم تكن تمتلك حرية التفكير واتخاذ قرار مصيري، وأن عقليتك في ذلك الوقت لم تكن تؤهلك لأمر كهذا.
هذا جزء مما حدث معي خلال مشواري التعيس مع كلية الهندسة التي لا أطيقها ولا تطيقني. بيني وبينها سور وجدار فاصل نشأ بفعل السنين، حاولتُ إظهار حسن نيتي في هدم هذا الجدار لكن يبدو ألا شيء يمكنه هدمه سوى تلك الورقة الملعونة التي تُعلن تخرّجي رسمياً من هذه الكلية. ولا يهم كيف تخرّجت ولا بأي تقدير ختمتْ.
قد يبدو لك الأمر مبالغاً فيه، وما مشكتلك بالضبط مع الكلية؟ فأنت لستَ وحدك الذي قبِل بكلية لم يكن يرضاها، فالجميع مثلك لكن الفرق أنهم تأقلموا مع أوضاعهم وتعاملوا مع الأمر الواقع أما أنت فلم تقدر فهذه إذاً مشكلتك وأنت الملوم هنا وليس الكلية. ما مشكلتك في أن تذاكر المواد المقررة عليك؟
لا يمكنني أن أجيب أو أحاول الدفاع عن نفسي ولا يمكنني إلا أن أبتسم ابتسامة خفيفة وأصمت. ولا أتمنى أن يعيش أحدٌ ما عايشته حتى يشعر بالمرارة التي تعتريني. فحينها سأكون أنانياً. مشكلتي مع الكلية تكمن في أنها غير قابلة للوصف. لا يمكن إلا أن تحس بها حتى تتأكّد من صدق معاناتي فيها وأنها كانت أسوأ قراراتي (على اعتبار أن القرار كان قراري من الأساس وهو ما لم يحدث).
بيد أن المشكلة الأكبر التي واجهتني هي أن الدراسة في تلك الكلية تراكمية. إذا جلستَ لتذاكر مادة في السنة الأخيرة أو قبل الأخيرة وتشرع في حل مسألة ما فستقف كثيراً لكي تسترجع قاعدة أو قانون ما درسته – أو هكذا يُفترض – في سنتك الأولى ولن تستطيع استكمال المسألة دون استدعاء هذا القانون.
هنا بالتحديد تكمن صعوبتها، ولعلّ هذا ما جعلها مناسبة أكثر لهؤلاء الذين يتمتعون بذاكرة حديدية ضد النسيان. من يعتمدون على الحفظ التام حتى لو لم يفهموا بعض مما يدرسوه. ولعلّ هذا أيضاً يكون سبباً في تعيينهم كمعيدين في الكلية ويؤمّن لهم مستقبلهم على أكمل وجه. لا أقول بالطبع أن جميع من يتعيّن معيداً هم من الحفظة، بالعكس يوجد هؤلاء العارفين الفاهمين بجانب قدرتهم على الحفظ لكن نسبتهم قليلة جداً، وربما تغيّر الحال للأفضل لو كانت نسبتهم أكبر.
فإن لم تنجح في استدعاء تلك القاعدة من السنوات السابقة والتي كان همّك فيها – ولستَ وحدك في ذلك – أن تنجح فقط في مادة الدكتور الفلاني الذي يشترط عليك أن تشتري كتابه الذي لا فائدة منه بالنسبة لك لكن فائدته كبيرة بالنسبة له فهو كالإوزة التي تبيض ذهباً دون أدنى مجهود.
إن لم تنجح في ذلك كله فأنت مُجبر على الحفظ (والبصمجة). وإن لم تكن من هؤلاء الذين يحفظون شيئاً لا يفهمونه، وكنت من أولئك (المنطقيين) المتعجرفين الذين يريدون تفسير كل خطوة حتى تستقر في عقولهم وتتثبّت فأمامك رحلة شاقة يا عزيزي ونتمنّى لك حظاً سعيداً. ولن يكون كذلك أبداً.
إذاً فعلاقتي مع الكلية معقّدة ولا يمكن اختصارها في أنها مجرد كلية لم أريدها من البداية، بل هي قصة معاناة مفروضة عليّ كذبابة وقعت بالخطأ في شراك عنكبوت غتيت لا يرحم.
الله المستعان.
- رابط التدوينة على مدونتي:
التعليقات