كنتُ أقرأ مقالًا في النيويوركر لكاتب أمريكي مخضرم يُدعى جون مكافي، اسمه المسودّة الرابعة (1) يبيّن فيه بعض النصائح للكُتّاب الذين يشتكون من بطئ نتاجهم الأدبي، ويحثّهم على البدء بالكتابة بالمسودّة الأولى، التي لن تكون صالحة للنشر، لكنّك وضعت الفكرة على ورق، ويأتي دور التشذيب بعد ذلك، وصولًا إلى المسودة الرابعة، وهنا يُعطي مكافي سرًا من أسرار كتابته الساحرة.

مكافي يقول أنّه عندما يصل إلى المسودّة الرابعة، يؤشِّر على بعض الكلمات، ويحاول أن يذهب للمُعجم ليجد كلمات تعبّر عنها بشكل أمثل، كلمات تُعطي الدلالة بدقّة.

"تحوّط بعض الكلمات في النصّ، أي كلمة لا تبدو منسجمة مع السياق، وحتّى تلك التي تنسجم، لكنّها تُمهّد لفتح آفاق في الجملة"

مكافي يقول أنّه يُفضّل البحث في قاموس معيّن، قاموس يشرح معنى الكلمة ويُعطيه بعضًا من مرادفاتها، ثمَّ يشرح معنى كل مرادف.

نوح ويبستر

نوح ويبستر هو من أشهر العلماء اللغويين الأمريكين، ألّف كتاب Blue Backed Speller وهو كتاب بمثابة المعلّم اللغوي للأطفال الأمريكان، يعلّمهم بطرق بسيطة كيف يقرأون ويتهجّون الكلمات والمقاطع، وكان من أكثر الكتب نجاحًا في ذلك الوقت، وبيعت منه 60 مليون نسخة مع عام 1890.

لم يكن هذا الكتاب هو أعلى طموحات ويبستر، ولم يكن ما عُرف به، في عام 1807 بدأ في صناعة مُعجم، سمّاه "القاموس الأمريكي للغة الانجليزية" وأراد منه مُعجما متكاملًا، فكِّر في رجل يجلس بمفرده، ويحاول أن يلتقط ما عنده من اللغة ويبثّه في أوراق!

26 سنة استغرقت ويبستر ليُتمَّ قاموسه، وقد حوى على 70 ألف كلمة، دوّنها كلها بنفسه، وقد اضطرّه الامر ليتعلّم لغات عديدة، ليكون عالمًا بأصول الكلام، والجذور المُشتركة، لم يبع هذا القاموس العديد من النسخ في حياته، ولم يُعطَ حقّه الكافي، لكنّه اليوم معروف جدًا، قاموس ويبيستر.

مرّ القاموس بتنقيحات عديدة في فترة حياة ويبستر وبعد وفاته (2) وهو في الأساس من صناعة رجل واحد، لكنّه قد يفوق كل القوامس التي نعرفها اليوم، خصوصًا وأنّ ما نحصل عليه من القوامس هي قواميس تُنشئها جهود أشخاص كُثر، فتخرج لنا كأنّها مولودة على جبل جليد، لا جهود رجل له حسّ الشعراء!

هذا المُعجم هو الذي يستعمله مكافي في تنقيح مسودّته الرابعة، وعندما عثرتُ على المُعجم بعد مقاله، عرفتُ أنّ سطوة مكافي الكتابية لم تأتِ من فراغ، وممّا لاحظته من استعمالي لهذا المُعجم، أنّه لا يحاول أن يفرض سيطرته على الكلمة، بل ينظر لها بعين حنونة، ويقرّ بتواضع أنّ الكلمة أكبر من المُعجم، والمُعجم إنّما يبيّن جزء من معناها، ولا يحاول أن يُقيّدها أو يحبسها.

لو ترجمت كلمة floruish في قاموس أوكسفورد، سأحصل على هذه

لكنّه عند البحث عنها في قاموس ويبستر أظهر لي أحد التعريفات: "ينمو بترف، يزداد ويكبر، كما ينمو النبات السليم"

أترك لكم مقارنة التعريف بجمود تعريف أوكسفورد!

هناك نسخ متعدّدة من القاموس، لكنِّي وجدتُ على موقع أرشيف (3) نسخة لقاموس 1828 مع بعض التعديلات، ولا أكفّ عن استخدامها هذه الأيّام!

بالنسبة للمعاجم العربية، أرى أنّنا نعاني من نفس المشكلة مع موقع "معاني" لكنّ لنا ماهو أفضل من ويبستر، فالكتب العريقة مثل لسان العرب تكاد أن تشرح رائحة الحروف لا معانيها فقط!

هوامش:

(1) مقال نيويوركر

(2) التغيّرات التي مرّت على القاموس

(3) قاموس ويبستر 1928 + 1913