ها أنا ذي لا أملك سوى القلم وهذا القلب المتعبين الخائرين. امرأة بلغت الأربعين عدا والتسعين روحا، وفي جعبتها الكثير لتخبرك به، لتلومك عليه، ولتحاكمك. لكنها فضلت الصمت، ليس حبا في الصمت واستجلابا لحكمته، ولا لأنها لا تشبه بنات جنسها فتصمت بدل الثرثرة المريحة، كل ما في الأمر أن الوقت قد فات، وتلاشت فرصتنا في جلسة بوح جيدة تليق بالحب الذي تقاسمناه معا والألم الذي حملته وحدي. ثم إن كل الأحكام الصادرة في حقك لن تنفذ، أنت السلطة التنفيذية التي احتكرت كل السلط. وأنا شعب ساذج يحب المستبد الجاثم فوق رقبته. أظنك نسيت، لكني لم ولا أنسى، لا أنسى أطنان الوعود والأحلام التي أتيت نحوي تحملها كطفل متحمس، قمم الآمال الشاهقة التي شيدتها وبروج الأماني العالية التي أقمتها ونحن عصفوران لطيفان على شجرة الإعجاب الأول، شابة أفوح عطرا فخما وشغفا أصيلا، شابة لا يكفيها الكون ولا يحتويها قلب. لكنك كنت المطب الذي كبح محركها، والماء الذي أخمد اشتعالها. لا تظن أني الآن بكلماتي هذه أنوح كعنقاء بُتر جناحاها وحُرِّقت سبعين مرة أو أكثر، ولا كأرملة لم تستوعب بعد أنها وحيدة بلا ملاذ، أو أني بصدد تقريعك وتوبيخك وتحويلك إلى جلاد عتي أمام ضحيته الضعيفة. لست ضعيفة ولم أكن يوما، كنت القوة التي دفعتك والعظمة التي رفعتك، والصمود الذي جعلك متماسكا كهضبة. أنا التي اخترت الدرجة الثانية ومنحتك الأولى ظنا مني أني أبلي بلاء حسنا، وأجسد الصلاح الذي أوصوني به. كوني زوجة صالحة أو موتي وأنت تحاولين ذلك. لقد حاولت واعتقدت لمدة طويلة من الزمن أني نجحت في المهمة، أرى نجاحك المتواصل وأظنه نجاحي أيضا، أرى صعود نجمك وأظنه نجمي، أرى تعاظم اسمك وأظنه اسمي. ألم نتعاهد أننا شخص واحد روح واحدة، فما الذي جد، وما الذي حصل!؟ وأين تعثرت قافلتنا فتحولنا لأشباح متعددة. منذ اليوم الأول أخبرتني أن الطموح الذي تحمله بداخلك يحتاجني

أكثر منك أنت، يحتاج امرأة امتزجت كل ألوان الطيف في عينيها وكل عذوبة الأنهار في صوتها وكل براءة الأطفال في روحها، وكل بأس الملوك في إصرارها. كلفتني بالمهمة الأصعب، والوظيفة الأشق، زوجة الظل، وقبلتها بكل حماس. ولم أنو يوما مغادرة الظل، ولا منافستك على النور، أحببت الظل ولطافة جوه وهدوء ابتعاده عن الأضواء والأصوات. تأتي ليلا وتضع رأسك الثقيل على كتفي وتبث لي همومك وهموم كل من تعرف، فتجدني بئرا لا قرار له، أدفن الهموم كلها فتعود كطفل ولد لتوه. أنت الغائب على الدوام، وأنا الحاضرة على الدوام، حاضرة إذا احتجتني وإذا لم تفعل. حاضرة في طعامك الشهي، في ثيابك النظيفة، في بيتك المرتب، في أطفالك المهذبين، حاضرة في عملك الناجح، في صيتك الذائع، في صراعاتك التي لا تنتهي، فلا تكاد تسقط حتى تجد جيشا يحملك على ظهر ترسانة أسلحة يخوض بك أعتى المعارك، ثم تفوز. كنتُ جيشك الذي لا يعرف الراحة ولا الاستسلام، أرابط على ثغور حلمك ليتحقق، وعلى أبواب نجاحك ليفتح. فتح الباب، دخلت أنت وخرجت أنا. خرجت جريحة ألفظ ما تبقى من أنفاسي، أنزف دما وأملا. ولم يتبق مني سوى جثة هادئة تدل على أن الكائن الذي كان هنا كان امرأة.

اليوم أستيقظ على هاتفك الذي يرن، وصوت الماء المتدفق الصادر من حمامنا الكبير الفسيح، يغسل جسدك العاري الذي أصبح يخجل مني كأخت كبرى، متثاقلة كسلحفاة توشك على الانقراض، أمد يدي لأسكت هذا الصوت المجنون، أحمل علبة أسرارك التي لا أريد معرفتها بين يدي، ألمس الشاشة، فيتوقف الصوت، ويظهر عليها خبر الوفاة. وفاة العهد والوعد. جنازة سريعة أقمتها وأنا أقرأ رسالة واردة من أنثى أخرى مثلي، ما زالت تصدق حكايات الرجال. تبث لك أشواقها ولوعتها وحنينها للقائك وقضاء أطول وقت أمام عينيك، تتأمل بريقهما وترتوي من حنانهما. للحظة تعاطفت معها، شعرت كأنها ابنتي، أشاركها نفس فصيلة الألم ونفس جذور اليأس. تحسست قلبي فوجدت حفرة سحيقة تحاول سحبي إلى العدم. تحولت إلى كومة قش تنتظر عامل نظافة ليلقي بها بعيدا في مكان مجهول ثم تبعثرها الريح فلا تعرف من هي ولا من أين أتت. أقرأ رسائلكما العذبة وأقرأ عن معاناتك مع امرأة لا تناسب وضعك ومستواك، عن زوجة لا تهتم بك ولا تلبي حاجاتك، عن امرأة تخلت عن وظيفتها في إسعادك. وأضحك، لقد كنت أنا المعنية بكل ذلك، حتى الكذب كنت فاشلا فيه. اكتشفت أني لم أعد أناسب وضعك المريح، الذي أوصلتك إليه، ولا مركزك العالي، الذي دفعتك دفعا نحوه كما تدفع حافلة مهترئة. ولا أناضل لأجل سعادتك التي ما كنت لتعرفها لولا أن تعثر قدري بك. اليوم أستطيع أن أخبرك بأني لست نادمة، لا على الوقت الذي أخذته من عمري وأهديته لك على طبق من حب وإخلاص ولا على ثمار بطني التي نثرتها لك يحملون اسمك ويمجدون نجاحك. اليوم أستطيع أن أخبرك أنك اخترت حياة الأسود، واخترت حياة الحملان، تأخذ دون حدود، وأعطي دون حدود. اليوم أستطيع أن أخبرك كما يخبر جندي مدمى الجبين مقطع الأوصال مبتور الإرادة، قائده المستلقي فوق أريكة مخملية أنه ينوي الهرب. فلم يعد يهمه مجد النصر ولا سيف العدو. اليوم سأدعك تواجه العالم الذي كنت أقف بينه وبينك، وحدك. سأترك لك الظل لتدخله أنت.