تتميز المجموعة القصصية هجير للكاتبة مريم أحمد علي بلغة شاعرية رائقة إلى حد أنها قسمت أسطر كل قصة وكأنها قصيدة شعرية بالفعل، وإن كان هذا ليس أمراً محبذاً في كتابة القصة؛ فشاعرية القصة تعتمد على إيقاع اللغة ومشاعر شخصياتها، ولكنها تظل نثراً يتم الالتزام في كتابتها بفقراتها وعلامات ترقيمها وجملها الحوارية، ولكن تظل اللغة الشاعرية المستخدمة ها هنا جذابة ومصطلحاتها وتعبيراتها على الرغم من سلاستها إلا إنها تنقل القارئ إلى عالم آخر من الحلم والمشاعر.

أهدت الكاتبة مريم أحمد علي مجموعتها القصصية هجير إلى حواء، وهو بالطبع الاسم الرمزي الذي يدل على كل امرأة؛ فكان إهدائها موجه لكل أنثى، وهو ما التزمت به في قصص المجموعة؛ فتناولت في كل قصة منها قضية ما أو مرحلة حياتية تمر بها أو مشاعر تؤرق كل أنثى وتتخبط فيها؛ فلعبت على أوجاع المرأة لتوقظها من سباتها وتخبرها أن تنتفض لنفسها وتفيق لذاتها؛ فلا تجعل عمرها يتسرب من بين يديها وهي تنعي حظها الذي جعلها أنثى في عالم تحكمه قوانين الذكور؛ فلا يقبل أن يكون للأنثى أجنحة تحلق بها في الفضاء وتسبقه.

وقد بدأت هذا الدرب منذ أول قصة في المجموعة، والابنة التي ترث من أمها الراحلة -دون أن تدري- حبها لجارها، والتي حملت عنوان "حواء على الدرج"، وأعجبني في هذه القصة تناولها للأمر من زاوية مختلفة لم نعتد أن يتم تناوله منها؛ فعادة عند التطرق إلى حب أنثى لرجل في عمر والدها يتم إرجاع تعلقها به إلى افتقادها لمشاعر الحب من والدها أو وفاته في سن مبكر ورغبتها في تعويض وجوده بالارتباط من رجل في مثل عمره.

ولكن البطلة هنا لم تفقد والدها ولم تفتقد لحنانه؛ فقد كانت مدللته الوحيدة، ولكنه الحب لا يعرف قوانين ولا يقف عند عمر، وربما كما قلت قد ورثت حبه من دماء أمها التي تجري في دمائها وقلبها النابض فيها، وكنت أتمنى لو أنه بادلها حباً بحب وعدها عوضه عن خسارته لحب أمها فيما مضى، ولكن هذا تمني شخصي بحت لأحلام وردية أعيشها دائماً في خيالي لا علاقة له بجودة القصة وفنياتها؛ ففي النهاية الكاتب هو إله نصه يسيره كيفما شاء.

وممن ورثت حب أمها ننتقل لمن أحبت أبيها؛ فأرادت أن يكون زوجها نسخة عنه في القصة التالية والتي عنونتها بـ"وآبتاه"؛ وكل فتاة بأبيها معجبة؛ فهنا تيمت الفتاة بأبيها ورفضت الاقتناع بفكرة رحيله عن الدنيا وابتعاده الأبدي عنها؛ فأرغمت زوجها أن يعيش معها لسنوات يلعب دور الأب، ولا ينعم بحياة الزوج؛ حتى ضج منها وأراد حريته المسلوبة في أن يكون ذاته لا شخص آخر، إلى "عطشة" التي عطشت للحب؛ فتخلت في سبيله عن كل ترف الحياة وارتضت به وحده حياة؛ فكان نصيبها منه فقط الكذب والخداع.

ومع القصة التي حملت المجموعة اسمها "هجير"، وعند البحث عن معنى الكلمة لغوياً؛ فهي تعني المهجور المتروك أو شدة الحر في منتصف النهار، وغالباً المعنى المقصود هنا هو المهجور المتروك؛ فقد كان هذا هو الاسم الذي اختاره والد راوية النص لها بعد وفاة والده (جدها) في يوم ولادتها؛ فعدها نذير شؤم وكرهها، وحملها مسئولية رفده من عمله نتيجة عدم تركيزه فيه لحزنه الشديد على وفاة أبيه، وكانت هي في نظره سبب كل البلايا التي قد تحيق به في أي زمان أو مكان.

وكم من طفلة كهجير تحملت ذنب جرائر لم ترتكبها، ما بين تحميلها ذنب لونها لو أنها كانت سمراء مثلاً، أو أن وجهها يحمل أي ملمح قد يراه الغير خارجاً عن المألوف وما اعتادوه من جمال، أو أنها ولدت بإعاقة ما، أو ربما ليست ذكية بالقدر الكافي وقادرة على جذب الأنظار، أو ربما لأنها ولدت أنثى من الأساس وكأن بيديها كان الاختيار، كانت هجير بطلة نص أدبي؛ فكانت قادرة على أن تخلق عالمها الخيالي بين الورق؛ فتصير كاتبة ويشجعها معلموها ولو لم تلق التشجيع بين أهلها.

ولكن أطفال الواقع ليسوا دائماً كهجير قد يجدون يداً حانية في الطريق تبين لهم مواهبهم وتطيب إبداعهم! ربما هم أكثر كنسيم بطلة القصة التالية "هباء منثور" التي ظلت أحلامها مجرد أحلام تراها في منامها، ولم تجد بداً في الهروب من واقعها الأليم إلا باحتساء سم فئران يريحها من حياة لم يكن لها الحق أبداً في اختيار أي تفصيلة من تفصيلاتها، ساءني فقط وأنا ابنة الصعيد أن يتم نسب الأمر كله لكونها من الصعيد، نعم يحدث هذا أحياناً في قرى الصعيد كما يحدث في قرى بحري ومناطقها الشعبية والعشوائية.

يحدث الأمر في كل ربوع مصر للأسف وليس حكراً على مكان، الأمر موقوفاً فقط على فكر الأهل لا المنطقة الجغرافية التي يحيون بها، فجامعات الصعيد ملئ بالفتيات سواء في الدراسة الأولية أو الدراسات العليا، وعلى الرغم من كون الكاتبة مريم أحمد علي كونها قادمة للقصة من عالم الرواية يستهويها الحكي والاسترسال في التفاصيل ويمتد بها الزمن طويلاً في قصصها، وهذا أمر عادة ما يخالف عناصر القصة القصيرة التي تعتمد على التكثيف ووحدة الزمان والمكان والموضوع.

وإن كان بالإمكان التحايل على ذلك ببعض التقنيات الفنية في كتابة القصة، وهو أمر نعتاده بالطبع بكثرة المران ومع كل كتابة جديدة، أقول أن بالرغم من ذلك إلا أنني في القصة التالية التي حملت عنوان "عقوق" شعرت أن هناك بعض التفاصيل الغائبة عني؛ فلماذا رفضت الأم زواج ابنتها من حبيبها وهو أستاذها الجامعي؟ وكيف تحول من أستاذ جامعي إلى مدمن؟ ربما الأم حدست الأمر بحسها الأمومي ولكن هذا أمر كان يحتاج للإيضاح والتبرير حسب منطقية السرد.

كما إنني لم أستسغ عنونة النص بعقوق؛ فاختيار الابنة لشريك حياتها وإصرارها عليه، حتى لو أساءت الاختيار، لا يعد عقوقاً، وإنما هو حق طبيعي لها وعليها أن تتحمل تبعاته، وإنما قصة "الوصية" ربما هي من كانت تستحق هذا العنوان، بينما جسدت قصة "فقد" مشاعر كل امرأة لا تجد مشاعر الحب والحنان والاحتواء من زوجها، ولأنه أيضاً ليس سيء الخلق ولا يهينها أو يعنفها وليس مقصراً في واجباته الزوجية والمنزلية؛ فبحسابات المجتمع لا يوجد شيء يستحق أن تشكو منه، وعليها أن تشكر الله على هذه الحياة التي تحياها، وكأن العواطف والمشاعر والحب هي أشياء لا قيمة لها في الحياة!

وفي قصة "ذنب لا يغتفر" عشنا مع الكاتبة مشاعر أطفال الملاجئ الذين لا أهل لهم ولا سند في الحياة؛ فيخرجون إلى المجتمع يواجهون وحشيته المطلقة ولا عون لهم؛ فيكون مصيرهم أن يُلقى بهم إلى قارعة الطرق كباراً كما أُلقى بهم صغاراً رُضع، ولا ذنب لهم إلا أن من كانوا سبباً في مجيئهم إلى هذه الحياة قضوا شهوتهم في لحظة طيش، وألقوا بثمرتها في سلال المهملات كي لا يتذكروا خطيئتهم يوماً ما، وتنتهي المجموعة القصصية للكاتبة مريم أحمد علي بقصتها المعنونة "من كثبان طفولتي".

في القصة الأخيرة من المجموعة القصصية هجير نطلع معاً على ثمار الحياة في بيت يسوده الشقاق الدائم، وأثر اختفاء الحب بين الأبوين وعدم رضاهم وقناعتهم بالحياة وشكواهم وشجارهم المستمر من بعضهم البعض أمام أطفالهم على هؤلاء الأطفال؛ فالكاتبة مريم أحمد علي في هذه المجموعة القصصية أرادت أن تتناول من خلال بؤرتها القصصية جل المشاكل والعقبات التي قد تعترض طريق حواء في الحياة منذ نعومة أظافرها واستقبالها لهذا العالم، أو استقباله لها، وحتى اللحظات الأخيرة من حياتها وهي تلفظ أنفاسها، وأحسبها أجادت التوصيف.

المجموعة القصصية #هجّير للكاتبة #مريم_أحمد_علي

#جولة_في_الكتب #مجموعات_قصصية

#مقالات #سارة_الليثي