أعددت فناجين القهوة وجهزت السبراتاية، وانتظرتها تدق العاشرة ومع دقات العاشرة لابد أن جرس الباب سيدق، فهو منضبط فى مواعيده وفى كل شئ، إنه يوم الجمعة، فمنذ زمن بعيد إعتدت على زيارته وشرب القهوة سويا، والخوض فى أحاديث شتى، تارة يتحدث فى السياسة وتارة فى الدين وتارة فى الحياة، بليغ هو إذا ما تحدث؛ حكيم إذا ما تدبر؛ وتارة يصمت طويلا وكأن فى الصمت عبادة، هكذا قال لى ذات مرة كل شئ عندى عبادة فمن السفاهة أن تضيع الدقائق سدى.

    لقد دقت العاشرة ولم يدق الباب بعد، تراه قد نسى، لا؛ محال أن ينسى إما أن يحضر أو لا يحضر، وإذا لم يحضر يسبقه عذره من الليل؛ لا ينتظر حتى يمر الوقت فيعتذر، هكذا عادته؛ ومحال أن تتغير عادة المرء بين ليلة وضحاها، فلماذا لم يحضر إذا بعد؟!

   لا بأس سأحضر بعض من الزهور وأضعها هنا فى المزهرية، مرت ربع ساعة ولم يدق الباب بعد، لابد أن هناك أمر جلل يجعله يتأخر عن موعده فلقد مضى عشرون عام ما تأخر عن موعده قط، تراه قد خانته ذاكرته فنسى الموعد، أم أن البرد منعه، فالشتاء هذا العام قارص، لعله سمع فى الأرصاد عن نبأ هطول الأمطار فامتنع عن لقائى،  لكنه منذ عشرون عام ما تأخر،  منذ أن كان فى الجامعة وقد تعود على زيارتى كل جمعة، أستأنس بحديثه وأبث له بعض من همومى؛ فرغم صغر سنه إلا أن له حكمة تميزه عن شباب جنسه حينذاك، شكوت له مرة جارتنا تؤذينى بالحديث وأنا التى أحسنت لها الدهر، ظننته حينذاك سيطلب منى أن امتنع عن إحسانى وأكف عن عطائى لها، فعجبت وقتها لردة فعله وقال إن زادت هى فى حقدها وسوئها فزد أنت فى عطائك وإحسانك،قلت: لا أستطع؛  إذ كيف أحسن وقد بلغ أذاها حد القلب؛ وكيف يُقبل القلب على من طعنه، ولو كان الطعن فى ما دون القلب لهان ولو كان من بعيد لهان، قال حاولى قلت له: لا أستطع: قال حاولى فلإن إستطعت فقد عتقت هذا القلب وسلمت به من كل سوء، أو ما سمعتى قول الله تعالى (  يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).

من أين لك بتلك الحكمة؟!

من القرأن والسنة والتأمل، أتأمل نفسى أولا ومن ثم نفوس الأخرين، والخلوة، ثم ضحك وقتها ، أليس الإحتكاك يولد حرارة ومن ثم تذيب تلك الحرارة كل تلك الحكمة مع غيرها ولا تدرين نصيبك وقتها مما أُذيب.

-ماذا تحب؟!

-أحب هؤلاء الطيبون، هؤلاء البسطاء الذين يمنحون دون إنتظار، وإن نفدت مواردهم كان عطائهم من القلب صادقا.

-وماذا تكره؟!

-أكره تلك الظروف التى غيرتهم وجعلتهم يقبضون بعد أن كانوا منبسطين فى عطائهم؟!

   لقد صارت العاشرة والنصف وهممت بحمل الفناجين فقد مرت نصف ساعة، وبدئت الأمطار تهطل بغزارة فتأكد لدى أنه لن يأتى.

   جلست أمام المدفأة أتزود بعض من حرارتها، وإذ بالباب يدق وإذ به حاملا مظلته مقبلا بإبتسامته صباح الخير خالتى، ثم نظر فى ساعته إنها العاشرة صباحا؛ فرغم سوء الظروف الجوية إستطعت الحضور فى موعدى .

#منى_مهير

الأحد

8محرم 1444هجريا

7أغسطس 2022 ميلاديا