منذ بضعة أيام استمعت لإحدى الروايات المسموعة، حيث لفت نظري الحوار فيها ولم أعلم هل هو حقاً ما تشمله الرواية أم هي إبداع من الملقي، لأقوم بتحميلها وأبدأ بقراءتها، حتى خلصت أنها حوار أغلبه من طرف واحد يضمّ العديد من المعلومات التي تستحق البحث عنها، أسماها من يقرأها رواية، إلا أنّ كاتبها نفسه لم يضع على غلافها ما يشير لكونها كذلك!.

(العصفورية) للسفير الدبلوماسي والوزير السعودي المرحوم غازي عبدالرحمن القصبي، ودعونا نتعامل معها كرواية كما جرى اعتبارها لدى أغلب الأوساط الأدبية، والتي هي ببساطة -كما أسلفتُ سابقاً- حوار طويل يسيطر على عدد صفحات الكتاب التي تصل إلى 303صفحة، حوار يبدؤه ويسهب فيه البروفيسور بشار الغول القادم من رحم ذكرياته والذي يتحدث أمام دكتوره النفسي سمير الثابت، حيث لا تكون هذه المرة الأولى لهذا البروفسور في مصحة الأمراض العقلية (العصفورية) بل إنه يدخلها كلما امتلأت جعبته من حكايات كثيرة يحتاج إخراجها أمام طبيبه النفسي.

ماذا تضمّ هذه الجعبة من الحكايات؟

إنها ما عايشه البروفسور مع أصدقائه السياسيين مثل كميل شمعون وجمال عبدالناصر وهتلر، والشعراء مثل المتنبي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، والأدباء مثل العقاد وطه حسين، والعلماء كأنشتاين ونيوتن، غيرهم الكثير الكثير، ثمّ ما عاشه ذلك البروفسور مع أصدقائه من عالم الجن ومع أبطال الأساطير والكائنات الفضائية.

يبدو الأمر لكم غير منطقياً، أليس كذلك؟ فتلك حقب زمانية مختلفة لا يُعقل أن يعيشها شخص واحد، حقب تنتقل من الواقعية للخيال، ولكن هل يمكنك أن تناقش مجنوناً عن واقع أحاديثه؟؟ فهذه القصص هي ما يؤمن بها البروفيسور ويسهب بالحديث عنها ضمن مواقف ومعلومات تصيب القارئ بالذهول ويحتاج للبحث عن مصادرها وصحتها، حيث قيل بأنّ القصبي استعان ما يصل إلى مائة مرجع جمعها في هذا الحوار الذي لم تتجاوز مدته (وفق الرواية) عشرين ساعة بين مجنون يدخل العصفورية في لبنان كلما عانى من انهيار عصبي أو صدمة عاطفية أو حالة جنون تغيّبه عن الواقع، ليخلق ذلك المجنون مصطلحات لا تعلم هل استخرجها الكاتب من قاموس اللغة العربية أم أنها ابتداع خاص وضعه الكاتب على لسان مجنونه.

الأسلوب الوارد في الرواية استثنائي تماماً، يتنقل بين الجنون حيناً والمعرفة أحياناً ليدمج الفصحى بالعامية (اللبنانية، والسورية، والمصرية، والمغرب العربي)، وكأنّ البطل يتحدث لهجات العالم العربي كاملاً والذي أطلق عليه البروفيسور بالمجتمع العربستاني (وهو ما كان اسم العرب قديماً)، ناقلاً ذلك الادعاء الذي عشناه جميعاً بتعلّم ثقافة الغرب لنطوّر معارفنا العربية، ثم ننخرط دون تعمّد منا فيما أسماه القصبي على لسان البروفيسور (عقدة الخواجة)، تلك العقدة التي أصبح أغلب أدبائنا وعلمائنا وكتّابنا مصابون بها، حيث استخدموا الثقافة الغربية بحجة تطوير واقعنا لتطغى دون انتباه تلك الثقافة على سلوكياتهم ومعتقداتهم وأفكارهم وحتى لغتهم، وهو ما سنجد البروفيسور يستخدمه طيلة صفحات الرواية التي تتميز بأسلوبها السهل الممتنع، والفكاهي المستظرَف، الذي لا يسعك إلا أن تبتسم أحياناً، وتستهجن في أحيان أخرى، وتبدي تفاجؤك في أحايين كثيرة.

قد يرى البعض في الرواية دوّامة وتفاصيل غير واضحة المعالم خاصة في الجوانب السياسية والفلسفية التي تتناولها الصفحات، لكنها للراغبين بالاطلاع على نمط مختلف ستكون فرصة جيدة لاحتوائها على مضامين جديدة، وكمّ هائل من المعلومات المختزلة في صفحات مهما ظننتموها طويلة فإنها مختصرة جداً لما تضمّه بين جنباتها.

والآن دعوني أتوقف معكم مع مقولة استشهد بها روي بورت على لسان أحد المجانين في كتابه (موجز تاريخ الجنون) والتي قال فيها (نحن المجانين نمتلك حرية التعبير عن ما يدور في أنفسنا، فنقول ما نشاء دون أن يسألنا أحد)، لذلك إن كنتم تظنون حقاً بأنّ سمة مجنون وسيلة يتم استغلالها للتعبير عن ما يجول بخاطر المتحدث دون أن تتم مسائلته عن معتقداته وآرائه، فهل ستلجأون لاختلاق شخصية مجنون للحديث عن آرائكم بحرية تحت غطاء (خذ الحكمة من أفواه المجانين)؟