تقدم الكاتبة إنعام كجه جي روايةً عن التغريبة العراقية، عن الأبرياء الذين فرقتهم الحروب والنزاعات الطائفية، وتستنطق الكاتبة صوراً مؤلمة من تاريخ العراق الحديث وحكايا كثيرٍ من أبنائه الذين انغمسوا في غربةٍ طويلة جعلتهم غائبين عن الدنيا رغم حضورهم فيها؛ ذلك أن روح المرء لا تلتئم إلا في أرضه التي نبت فيها مهما خفق بنعله في أصقاع الأرض.
وقد قرأت الرواية في سهرتين متعاقبتين وكتبت حولها النقاط الآتية:
وردية اسكندر طبيبةٌ بغدادية، رمت بها قرعة التعيين في مستشفى الديوانية جنوب العراق حيث تبقى هناك مدة ربع قرن و تلتقي بمن سيصير زوجها وتنجب منه أبناءها: برّاق، وهندة، وياسمين. الذين ترمي بهم الأقدار -مرّةً أخرى- في ثلاث قاراتٍ متباعدة لايجمعهم إلا التواصل عبر فضاء الانترنت الافتراضي.
تقدّم وردية، وهي على مشارف الثمانين، طلب لجوءٍ في باريس يُقابل بالترحيب، وينالها تكريمٌ من الرئاسة الفرنسية يضعها من فرط سعادتها على ذروة العالم، وهو الشيء الذي لم تنله في وطنها الأم. رغم خدمتها الطويلة في قطاعٍ حساسٍ زمن الحروب والويلات. وعند هذا التكريم تحديداً تستفتح انعام كجه جه روايتها، ثم تعود بالقارئ القهقرى أزماناً مرّت بالطبيبة وولّت لكن تبعاتها لاتزال تحفر في نفسها وتوقظ في ذاكرتها أفعال لصوص الفرح الذين جاؤوا العراق من قعر الآدمية ليسلبوا منها لذيذ التواصل الشخصي مع أفراد عائلتها المتشظّين طشاري في البلدان.
في باريس تقيم الطبيبة وردية رفقة ابنة أخيها وزوجها وابنهما اسكندر متحاملةً على ماتكره من الحياة وهي الغربة. أما اسكندر فله حكاية أخرى حيث يبتكر هذا الشاب العبقري مقبرةً إلكترونيةً تجمع -رمزياً- رُفات العراقيين ليدفع عنهم وحشة الموت في الغربة، كما يتحصّل على معلوماتٍ عنهم وعمّا يحبونه من موسيقى وغيره ليُضيفه إلى ملفاتهم/قبورهم، ملفات الحزن والفقد التي اندثرت بينها المسافات بعد أن كانت أكبر بلائهم.
إنّ المُستبحر في زمن وتسلسل الأحداث في رواية طشاري لن يرسوَ على ترتيبٍ واضحٍ لنقطتي البداية والنهاية وهو إجراءٌ فنيٌّ محبّبٌ -إليّ على الأقل- ويجعل للنهاية فضاءً رحباً أمام قناعات القارئ وتأويلاته.
رغم تنوّع الفسيفساء القومية والطائفية في العراق إلا أنّ الكاتبة جعلت من شخصيات الرواية (مسيحيين وشيعة فحسب) واذا أتت على ذكر غيرهم (السنّة مثلاً) فإنها تأتي عليهم في مقام الانكار والتشنيع. وهنا أودّ الإشارة إلى ملاحظةٍ هامة:
ليس من المفترض على الراوي أن يذكر كل الطوائف والملل في عمله، ولسنا نطالبه أن يذكرهم بالخير والحُسنى بالمطلق ففي الحياة خيرٌ وشر والرواية مرآةٌ لهذه الحياة، وبالمجمل فإنّ أيّ عملٍ روائيٍ مبتكر يحق له ذلك إذ لسنا أمام خطاب احترام لأتباع الملل على تنوعها، ولكن يؤخذ على الكاتبة هنا أن تحصر المأساة في طائفتين دون أن تذكر (ولو تلميحاً) أنّ العراق كل العراق ناله من نهك السيف والسلاح وتفشّي القتل شيءٌ كثير، ولو فعلت لكان ذلك أدعى للحياد وأنفى للشك.
أوغلت الكاتبة في استخدام اللهجة العراقية دون أن يضرّ ذلك بجمال السرد، لكنّ بعض التعابير الغليظة لاتجري على ألسنة كل القرّاء فيضّطرون إلى التماس المعنى من الانترنت، وهذا -عند كثرته- يُفقد العمل السموّ الأدبي في التعبير.
صدرت الرواية عن دار الجديد، وتقع في 251 صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية جميلة تحكي آلاماً لاتزال حاضرةً في الذهن عن العراق الجريح.. البلد الأقدم عهداً في القانون والأسبق ميلاداً بين الحضارات.
التعليقات