عندما يحلّ الخريف وتلوح بوادر الشتاء أميل بالفطرة إلى قراءة الأعمال الخالدة، هذا العام كنتُ أبحثُ عن كتابٍ كالمرايا، يعكس حياة الناس البؤساء، ويحرّض الأشواق والحنين، ويكثّف العالم في قصة.
رواية تنقل واقعاً ولاتجول كثيراً في فسحة الخيال.نقّبتُ عنها في حديث القرّاء، وحوارات النقّاد، ونصائح أصحاب المكتبات، فوقع اختياري على روايةٍ -عندما قرأتها- عرفتُ أنّني كنت أبحث عن شيءٍ يشبهني..هي قصّة صغيرٍ نشأ في زمنٍ صعبٍ كانت أجساد أهله بغير أرواح، ثمّ عانى الغربة في يفاعته، وأكلت الحروب زهرة شبابه.وعندما أنهيتُ صفحتها الأخيرة خامرني شكٌّ بأنّني لم أكن أبحث عنها بقدر ماهي التي كانت تبحث عني.إنّها رواية عدّاء الطائرة الورقيّة.. إحدى روائع خالد حسيني.
من الصعب الإحاطة بالإبداع مهما تحلى القارئ/الناقد بالأناة وطول التدقيق، لكنّه يخرج إلى القرّاء “بإطلالاتٍ نقدية” توضّح بعضاً من الأداء الفني للكاتب، وفرادة عمله، وأهميته الفكرية والأدبية.
في رواية “عدّاء الطائرة الورقية” سلّط الكاتب الأفغاني الأميركي “خالد حسيني” ضوءاً على بؤس الواقع الذي يعيشه المجتمع الأفغاني الذي يبدو أن العالم أدار له ظهره منذ عقود. وكأنّه بذلك رمى حجراً في بحيرةٍ ساكنة وجعلنا -نحن القرّاء- نتتبّع حركة هذه الدوائر ونكتشف طريقها ومركزها الذي خرجت منه.
لقد شوّهت أحداث الحادي عشر من أيلول صورة المجتمع الأفغاني في عيون العالم، فجاءت روايات خالد حسيني (عدّاء الطائرة الورقية، ألف شمس ساطعة، وردّدتِ الجبال الصدى) لتكشف لنا خبايا مجهولة من هذا المجتمع الذي انتصرت فيه الغوغائية ونشرت ثقافتها. فنفت هذه الروايات الصورة النمطية المنطبعة في عيون العالم، وقدّمت صورةً جليّةً للإنسان المقهور الذي يصلح لمجابهة النذالات والقادر، رغم مافيه من متاعب أفرزتها ترسّبات الحروب المتوالية، أن يرمّم تصدّعات الماضي ويصحّح أخطاءه.
تحكي الرواية قصة صداقةٍ عميقة نشأت بين الطفلين “أمير” وهو من البشتون السُنّة، مع خادمه “حسن” وهو من الهزارة الشيعة، وسنعرف لاحقاً أنهما أخوين من الرضاعة، ولايقيمان وزناً لاختلاف انتمائهما الطائفي ولايدركانه أصلاً، إذ جلّ همّهما اللعب وتسلق الأشجار والعدو خلف الطائرات الورقية التي يتقن “حسن” توقع أماكن هبوطها فيمضي نحوها بثقةٍ تخلب ألباب الأطفال؛ مامنحه لقب “عدّاء الطائرة الورقية” عن كفاءةٍ واضحةٍ وجدارةٍ.
مسرح الأحداث في هذا الجزء من الرواية منطقةٌ في شمال كابل، ورغم أنها من أرقى مناطق العاصمة الأفغانية وأكثرها تحضّراً إلا أنّ شعبها لايزال متمسّكاً بجلافة البداوة والعادات البالية.في فصول الرواية الأولى -حيث يسقط الحكم الملكي وتبدأ القوات السوفيتية بالسيطرة على مفاصل الدولة عام 1975- يصوّر لنا الكاتب المجتمع الأفغاني مجتمعاً منهكاً يحمل عبئاً ثقيلاً من ترسّباتٍ قبليّة لايملك أن يتصالح معها، وغيابٌ مستتبٌ للديمقراطية في الحياة الإجتماعية، يقابلها حضورٌ راسخٌ للتفوّق العنصري والطائفية المستحكمة بين أبناء المجتمع، وكل ذلك ضمن سياق قصة عداوةٍ بين (حسن وأمير) من طرفٍ، وثلةٌ من اليافعين الأشقياء (آصف، والي، كمال) الذين يبيتون للوَلدَين كرهاً مستحكماً من طرفٍ آخر. فيعتدي “آصف” على “حسن” بفعلٍ جنسيٍّ خسيس ويساعده صديقاه (والي وكمال) بابتذالٍ بهيميٍّ فاضح، أما “أمير” فيتلصّص متفرّجاً على المشهد من مسافةٍ غير بعيدة، يكبّل يديه للدفاع عن صاحبه خوفٌ وعجز. كان جباناً لدرجة أنه تخلّى عن فكرة الدفاع عن صديقه، وستؤول حياته بعد ضعفه هذا بؤساً مريراً واعتلافاً بالحزن والرماد.
تتسارع الأحدث وتنشط حركة النزوح من “أفغانستان” وتصل الرحلة بأمير وأبيه إلى “فريمونت/أميركا” حيث يعمل “بابا” هناك في محطة وقود بعد أن كان سيّد قومه وعشيرته. هنا تنال سياط الغربة اللاذعة من أمير وأبيه الذي يبحث عن سعادةٍ يبتغيها ولاينالها، بل أكثر من هذا؛ لقد وقع مع ولده في عالمٍ ضيّقٍ رغم رحابته، ولا تحوز هذا العالم إلا زمجرة المصلحة والمال.
تظهر تيمة الغربة واضحةً ابتداءً من هذا الفصل من الرواية، وحتى عندما يرجع “أمير” إلى وطنه ليداوي مايشطر روحه من براثن الماضي، ويبحث عن أخيه ليجتثّ معه ماغُرس من آلامٍ مزروعة في تربة النفس؛ يذهل عمّا يجد عليه بلده، ويشعر بغربةٍ وهو في بيته الأول، لقد استحالت (أفغانستانه) الساحرة إلى صحارٍ ماحلة لا حيوية فيها ولايخضور، وكأنه بها عجوزٌ مترهلة، متكهّفة الخدّين، بعينين ذابلتين وجبينٍ مسفوع.
إذاً، لاتحلّق رواية “عدّاء الطائرة الورقية” بعيداً عن سرب الأعمال الروائية الأفغانية التي وصلت المكتبة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، من حيث تركيزها على الظلم الإجتماعي، وثمرات الحرب المرّة، والغربة القاسية التي تحصر الروح في هامش الحياة. نجد ذلك واضحاً في أعمال عتيق رحيمي، وعارف فرمان، وخالد حسيني.
يتخذ الإطار العام للرواية طابعاً تقليدياً حيث تتعاقب الأحداث دون تنافرٍ أو تداخل إلا ماكان من لحظاتٍ تنبش الماضي وتدفع الذكريات إلى الحضور وكأنّها ومضات حلمٍ خاطفة.كما أنّ تنظيم الانتقالات السردية منطقيٌّ ومرنٌ ابتداءً من فاتحة الرواية وحتى فصلها الأخير. ويبدو أنّ الكاتب مدركٌ تماماً لمزالق هذا الطابع الذي قد يودي بقارئه إلى الملال، فكان يؤجّج الحركة الدرامية مرّاتٍ، ويهمس في أعماق القارئ بصوت الوعي والضمير والوجدان مرّاتٍ أُخَر، مايدفع القارئ للبحث في أرشيفه الداخلي عن تقاطعاتٍ وتجاربَ مماثلة أثّرت في طفولته وشبابه، وهكذا يبقى حضور الكاتب والقارئ طاغياً في سردٍ نابضٍ بالحياة.
صدرت الطبعة العربية الأولى من الرواية عام 2012 عن دار بلومزبري / مؤسسة قطر للنشر، بترجمة محترفة من إيهاب عبد الحميد، وتقع في 507 صفحة من القطع المتوسط، وبالمجمل هي رواية مُفجعة، مؤلمة، لاتُنسى…
التعليقات