يقول فرانسيس فوكوياما: "وقد فهم هيغل هو أيضًا أن التحول الأساسي الذي طرأ على الحياة الحديثة هو ترويض السيد وتحويله إلى انسان اقتصادي."

-فوكوياما فرانسيس. نهاية التاريخ وخاتم البشر، ص: 289؛ ط. الأولى 1993م، ترجمة حسين أحمد أمين.

الانتقال من القوة إلى المال

يعتقد فرانسيس فوكوياما أن التاريخ قد انتهى بعد أن استطاعت الديمقراطية الليبرالية أن تحقق توازنا بين الجوانب الثلاثة للروح، لكنه يعترف مع ذلك، أن هذه الديمقراطية الليبرالية لم تحقق المساواة في الجانب المادي، مُعتبرا أن المساواة بين الطبقات ماديًا لا يمكن، لأن الإختلافات في جانب المادي تدخل ضمن الاختلافات الطبيعية والقدرات المختلفة بين البشر. ومحاولة تحقيق تلك المساواة سيؤدي إلى مجتمع شمولي مستبد كالمجتمع السوفياتي، لأن المساواة ماديًا، يعني القضاء على حرية التملك، وللقضاء عليها يجب استعمال قوة النزع وتغيير الفطرة (وهذا ما يعتبر استبدادا وفاشية). لهذا اعتبر أن الحرية الاقتصادية والمساواة الاقتصادية لا يلتقيان.

هيغل من خلال ما قاله أعلاه، يؤكد أن هناك انتقالًا من مجتمع يعمل بمعيار القوة البدنية التي تحولت إلى شرف ونبل، إلى مجتمع يعمل بمعيار المال. هذا يعني أن هناك انتقالًا من مجتمع ينظر إلى الأشياء نظرة الشرف والقوة والصلابة، ويُقيم الناس حسب هاته المعايير. وحتى المفاهيم العليا تم تقييمها على أساسها،فالجمال مثلًا يعتبر قوة جذب ميتافيزيقية، ومفهومًا نبيلًا. فالشيء الجميل هو شيء شريف، أما الشيء القبيح فهو شيء غير شريف.

والآن نحن في مجتمع يُقيم الأشياء حسب قيمتها المالية، السعر والثمن، الشيء القوي هو شيء غالي الثمن، والشيء الجميل كذلك، وحتى الناس أصبح تقييمهم حسب مستواهم الإجتماعي في المجتمع، فالغني ينال اعترافًا كبيرًا، والفقير ينال اللامبالاة أو الشفقة، يعني أن الغني مُحترم والفقير ليس مُحترمًا (محتقر)، أي أن الغني له كرامة أكبر من كرامة الفقير.

الانتقال الذي حدث من مجتمع إقطاعي (علاقة سيد بعبد) إلى مجتمع رأسمالي (علاقة رب عمل بعامل)، هو انتقال من عمل بالقوة إلى عمل بالمال. فهل انتهى الصراع؟

الفقير ومعيار المال

إن الصراع الذي كان بين السيد والعبد، هو صراع ناتج عن الإستغلال الذي كان يتعرض له العبد، ونظرته إلى حياة السيد على أنها حياة قائمة على أكتافه هو، لهذا يقول في قرارة نفسه، موجهًا كلامه إلى السيد: هذه الرفاهية والحياة الباذخة التي تعيشها، أنا الذي صنعتها، والسيد يعلم ذلك، لكنه لا يريد أن يعترف به.

فإدراك العبد لهذا الإستغلال، ورغبته في أن يعمل لنفسه، حتى يصنع لها تلك الحياة التي يعيشها السيد على شقائه (شقاء العبد)، هي التي جعلته يثور ويقلب الطاولة، حتى يخلق مجتمعا يكون شعاره: من يعمل أكثر يعيش حياة أكثر احترامًا. لكن هذا لم يحدث، فالمجتمع الذي تمت صناعته هو مجتمع شعاره: من لديه مال أكثر يعيش حياة أكثر احترامًا.

بالفعل، لقد سقط طموح العبد في التراب، فهو لم يخرج من الاستغلال، بل فقط خرج من لون معين للاستغلال إلى لون آخر. فعمله انتقل من عمل بالقوة إلى عمل بالأجر، يعني أن عمله ليس ملكًا له. أفلم تنته العبودية بعد، وإنما تم تحسين ظروفها.

لازال لدينا هناك سيد وعبد، تغيرت فقط الألقاب، السيد في المجتمع الإقطاعي هو إقطاعي، والعبد هو قن، وفي المجتمع الرأسمالي السيد هو البورجوازي، والعبد هو العامل. إذن لم يعترف الجميع بالجميع، بل هناك اعتراف طبقة بطبقة أخرى، اعتراف معياره المال، طبقة غنية وطبقة فقيرة، الطبقة الغنية محترمة، أما الطبقة الفقيرة فغير محترمة.

الفقير يبحث عن اعتراف المجتمع به على أنه إنسان، لكن المجتمع الرأسمالي لا يعترف سوى بمعيار المال، إن كنت تمتلك المال سيعترف بك، وإن لم تكن تمتلك فإنك مُحتقر. وهكذا يشعر الفقير على أن هناك احتقارًا مُوجهًا في اتجاهه لأنه لايملك كثيرًا من المال، لهذا يُحاول ما أمكنه أن يحصل عليه، فيعمل من أجل ذلك بكل جد، لكن عمله هذا لا يُقدم له مالًا كافيًا ليتجاوز الاحتقار. فيتبع طرقًا سهلة حتى يستطيع أن يُؤكد للمجتمع على أنه إنسان، إنسان بالمعيار المالي. قد يحاول أن يقترض مالًا، أو أن يدخل في قمار أو أن يسرق أو أن يقبل رشوة أو أن يبيع المخدرات، المهم أن يفعل أي فعل لا أخلاقي يُسهل عليه عملية الكسب.

احتقار طبقي وحقد شامل

لقد أصبح الفقير غنيا بهذه الطرق إذن، لكن حتى ولو أنه استطاع أن ينال الإعتراف من المجتمع بهذه الطرق اللاأخلاقية، فإن ضميره غير معترف به؛ لأنه يعلم بأن الطرق التي انتهجها هي طرق دنيئة، لا تسمو إلى مستوى الإنسان الأخلاقي، فيعيش هذا الفقير الذي أصبح غنيًا حالة اضطراب نفسي. فهو إنسان في نظر المجتمع (صاحب المعيار المالي)، لكنه ليس إنسانًا في نظر ضميره (صاحب المعيار الأخلاقي). فهو حاقد على هاته الحالة التي وجد فيها نفسه.

لكن ماذا لو أن الفقير لم يلتجئ لطرق دنيئة ووصل إلى الغنى؟ فإنه في هذه الحالة، سيُصبح إنسانا في نظر المجتمع ونفسه، ولن يبقى فقيرًا، لكنه يطرح سؤالًا: أنا إنساني، ومن هو لا إنساني؟ وبما أن معيار تقييم المجتمع له على أنه إنسان هو معيار المال، فإن النتيجة هي: أنا إنسان لأني غني والفقير ليس إنسانا لأنه ليس غنيًا، إذًا أنا أفضل من الفقير. وهذه النتيجة تعني: يجب احتقار الفقير. فالفقير بالتالي محتقر من طرف الغني القديم (الذي ورث الغنى) والغني الجديد (الذي كان فقيرًا وأصبح غنيًا.. عصاميًا).

فالغني القديم يحتقر الفقراء منذ نعومة أظافره، والغني الجديد يحتقرهم منذ أن أصبح غنيًا. وبما أن الأول ليست له ذكرى مع الفقر والفقراء، فإن احتقاره يكون ضعيفًا، لأن احتقاره هذا غير مبني على أساس منطقي، فهو لا يعلم السبب الذي جعله يحتقر الفقر والفقراء، سوى ما تورثه في وسطه من تفكير سلبي اتجاه الفقر. أما الثاني فاحتقاره يكون قويًا، لأن له ذكرى كريهة مع الفقر والفقراء، ولا يريد أن يعود إلى تلك الحياة، ويعلم في نفس الوقت الحقد الذي ينتشر في نفسية الفقراء (لأنه عاش نفس الحالة)، لهذا يحاول تجنبهم حتى لا يؤذونه حقدًا وطمعًا في ماله، فعلاقته مع الفقر والفقراء هنا هي علاقة حذر واحتقار لتفكيرهم (الذي عاشه قبل)، إذًا يكون الغني الجديد أكثر احتقارًا للفقراء والفقر من الغني القديم.

أما الفقير الذي لازال فقيرًا ولم يصبح غنيًا، فإنه يعيش خجولا في المجتمع، نظرًا لفقره، فحتى الشفقة التي ينالها تجعله خجولًا، لأن الشفقة تعني اعترافًا ضمنيًا بأنه شخص غير قادر وضعيف، يجب العطف عليه. وهذا ما يجعله يحس في قرارة نفسه أنه ليس جزءا مُهمًا في المجتمع الذي يعيش فيه، لهذا يحقد على هذا المجتمع. فالاحترام لايناله، ولا أحد يعترف بإنسانيته، أما هو فيجب عليه أن يُظهر الاحترام للذين هم أحسن منه مالًا.

الفقير يعيش في نفسيته حقدًا للمال، لكنه يريد أن يحصل عليه، ويحس بحقد موجه للغني، لكنه يُظهر الاحترام له، ويحقد على المجتمع، لكنه المجتمع هنا والآن (إنه واقع). لهذا يحلم الفقير بمجتمع يحترمه ليس بمعيار المال، وإنما بمعيار ما يقدمه من عمل (عضلي أو ذهني). فيصنع في نفسيته مجتمعًا مناقضًا لهذا المجتمع الواقعي.

إذًا، الغني يحتقر الفقير، إذًا هذا الاحتقاره موجه من طبقة غنية إلى طبقة فقيرة. أما الفقير لا يحقد على الغني فقط، بل يحقد على المجتمع ككل، لأن المجتمع هو الذي اعتمد على معيار المال ليُعطي الفرصة للغني حتى يحتقره، إذًا المجتمع هو سبب هذا الاحتقار، لهذا يوجه الفقير حقده للمجتمع ككل، فيكون بذلك حقده شاملًا، ينتظر فقط الفرصة ليقضي على هذا المجتمع، كانتقام منه لما تعرض له داخله من احتقار، إذًا فثورته ستكون ثورة انتقام نابعة من حقد دفين.

خاتمة

في الأخير، نستنتج أن هناك صراعًا عميقًا، لا يظهر على مستوى الواقع، وإنما يكتفي فقط بنفسية الفقير فقط، فالفقير هو الذي يُحس بهذا الصراع، لأنه هو الطرف الذي صنع المجتمع النقيض في نفسيته، أما الغني فلا يحس بذلك، لأن المجتمع الذي يعيش فيه هو مجتمع يسير على المنوال الذي أراده، ويعترف بإنسانيته. ولا يبالي إن كان الفقير حاقدًا أم لا، فالمجتمع لازال مستمرًا، والمال لازال يتدفق عليه. أما الفقير فنفسيته لا تهدأ، لأن الثيموس في صدره لا يهدأ، باحثا عن الاعتراف، الذي لا يوجد في هذا المجتمع. يعني أن الثيموس لن يهدأ في صدر الفقير حتى يفنى هذا المجتمع.