( 1 )

على الرغم من أن هذا الموضوع تحديداً ، من الصعب جداً إستيعابه وتطبيقـه في حياتنا التي أصبحت أساساً قائمة على مفهوم التواصل الإجتماعي أكثر من أي شيء آخر .. الا انني لا املّ من الاشارة له من وقت لآخر ، ربما لأنني اعرف مدى خطورته في بناء القناعات والتصوّرات ..

الربط بين الشخصية ( الإفتراضية ) في السوشيال ميديا ، والشخصية ( الواقعية ) في العالم الحقيقي رباعي الأبعاد الذي نعيشه ..

هذا الربط يكون أثره متفاوتاً ، لكنه يكون سلبيـاً في الغالب .. بين قصص حب مشتعلة على الفيسبوك ، ثم تفشل من أول لقاء واقعي .. وبين انطباعات سلبيـة عن ناس مظلومين ( لا يستحقون هذه الانطباعات السيئة ) ، وانطبـاعات إيجـابية عن أشخاص لا يستحقون !

==========

( 2 )

فنصيحتي التي أحب أن اذكّــرك بها ( رغم أنك تعرف مضمونها بشكل عام ) :

 إيّـاك تكوّن إنطبـاع شخصي من أي نوع بخصوص أي انسان ، إيجاباً أو سلبـاً ، فقط بناءً على شخصيـته الافتـراضية على السوشيال ميديا ..

السوشيال ميديا تعتبـر من أهم الأمثلة التي تثبت بإستمرار أن العقـل يكوّن قناعات خاطئة طوال الوقت ، بعيداً تماماً عن الحقيقية ، وفقاً لأدوات بعيدة عن المنطق ، والتأثر بطريقة التلقي ، وميـل المشاعر التلقائي للتصديق أوالتكذيب ، أو الحب او الكراهية ..

العقـل البشري غارق تماماً في مفهوم ( الإسقاط ) .. ان تتلقى سطراً أو صورة على الفيسبوك ، فيحوّلها عقلك الى حالة بصرية كاملة ثلاثية الأبعاد ، ثم يقفـز من وراءها على استنتـاجات بخصوص ( الأشخاص ) لا علاقة لها بالواقع ، من قريب أو من بعيد ..

بمعنى آخر ، السوشيال ميديا تجعلك ترصد الأشخاص في عالم الواقع ، بأدوات الواقع الافتراضي .. وهذا خطأ قاتل نقع فيه جميعاً بشكل أو بآخر ..

========

( 3 )

في هذا الموضوع تحديداً لي عشرات التجارب التي لا تُحصــى :

  • شخص عرفته افتراضياً ، لا يكتب جملـة واحدة إلا وبها 4241345 خطأ إملائي .. أخطاء إملائية من النوع الذي تزعجك فعلاً ، مثل : أوستاز ، وهو كزلك ، لمازا تتكلم هكزا ، الدونيـــه صاعبــه .. إلخ

كوّنت عنه فكـرة طويلة أنه - بناءً على رصدي لنشاطه على السوشيال ميديا - ساذج جداً .. منغلق جداً .. ثقافته متواضعـة جداً .. تعليمه متدنّي جداً .. الى أن جاء الوقت الذي قابلته فيه بالصدفة البحتة وعرّفني بنفسه .. ففوجئت بأنه العكس تماماً ..

طليق اللسان لدرجة مبهرة .. لغته الجسدية وهو يتحدث ربمـا أفضـل ما رأيت في حياتي .. حاضر الذهن جداً .. حاضر الدعابة دائماً .. في لحظة واحدة ، يستطيع التحول من الدعابات الى الجدية الى المزح الى الاهتمـام ، دون أن يبدي عليه التكلف ..

والاهم ، يجبرك جبراً عجيباً على الاستمـاع له بلا أي ملل إطلاقاً .. هذا الذي كنت أظنه كارثة تسير على قدمين ، فوجئت أنه من أفضل الناس حديثاً وأمتعهم كلاماً وأطلقهم لساناً ..

  • منذ فتـرة طويلة ، عرفت شخص بشكل افتراضي ، أصبح بمرور الوقت صديقاً عزيزاً ( افتراضياً ) .. طلب مني التواصل الهاتفي بشكل ضروري لمساعدته في شيء معين .. بالفعل تواصلت هاتفياً معه ، وأنجزنا الموضوع ..

بعدها بفتـرة ، وجدته يرسل لي رسالة خاصة ، يبدي فيها دهشته الشديدة من صوتي ، وأنه فوجئ ان صوتي مرح ضحوك ( على وحد وصفه ) ، وأنه كان يتخيّـل أن يكون صوتي شديد الجدية والتحشرج ..

السبب انه كوّن تصوراً كاملاً في ذهنه بخصوص شخصيتي الواقعية أنني كئيب و ( مقـروف ) طوال الوقت ، بسبب سلسلة طويلة من البوستات على حائطي الشخصي ، او مقالاتي التي قراها وقتها ، يبدو فيها جانباً سوداوياً قليلاً ..

  • موقف ثالث لمحت فيه أحد الاشخاص الذي اعرفهم افتراضياً ، وأنا جالس على أحد المقاهي المطلة على شاطئ مدينتي في عصــر يوم شتوي بارد ..

تقدمت منه ، وسلمت عليه ، وعرّفته بنفسي .. فوجدت أنه يعاملني بدهشة شديدة ، أعترف لي لاحقاً أنه لم يكن يتصوّر ان هذا الشخص ( منكوش الشعر ) الذي يرتدي الأسود ، ولحيته غير حليقة ، هو انا ..

لأن عقله كوّن صورة خيالية نابعة عن ثلاثية : الكلمات المكتوبة ، الصورة الشخصية لي وأنا أرتدي بذلة ، أو اللقطـة الفوتوغرافية السريعة .. انني اعيش بهذا الشكل الثابت طوال الوقت ..

وغيرها من التجارب التي تراكمت بمرور السنين ، وجميعها أعطتني نفسك النتيجة ( بأشكال ومواقف متغيرة ) بشكل يجعلها الحقيقـة فعلاً ، وأنها ليست مبالغة أو تجربة شخصيـة عابرة ..

======================

( 4 )

لعبة الإسقاطات العقلية بناءً على تواصل عبر السوشيال ميديا شديدة الخطورة ، سواءً بالجانب الإيجـابي أو السلبي :

  • الإعجاب المُفـرط بشخص مـا ، والإسقاط العقلي المُباشر انه فى الواقع بنفس الروعة ..

  • أو العكـس .. الكراهية والاستخفاف بشخص ما والإسقاط العقلي المباشر انه فى الواقع بنفس السوء ، وربما أسوأ ..

دائماً ما يتجاهل العقـل أن السوشيال ميديـا هي مجرد إبراز لجانب واحد بسيط من شخصية كل انسـان .. الجانب المنمّق جداً ( لو كان يجيد استخدام السوشيال ميديا ) ، أو الجانب العفوي جداً ( لو كان يستخدم السوشيال ميديا بشكل عفوي ) ..

 وأن الواقع المُعاش له أدوات مختلفة تماماً للحكم على الأشخاص ..

نظرة عين ، أو نبرة صوت ، أو طريقة حديث ، أو حتى طريقة التحية ، قادرة على تغيير قناعاتك بخصوص شخص ما بدرجة 180 ، وفي عدة دقائق ينقلب العدو الى صديق حميم ، والشخصية التي تثير اعجابك الى شخصية بغيضة بشكل كامل ..

لذلك ، نصيحتي مرة أخرى :

حاول انك تتجنّب هذا الخطأ في الحكم على الأشخاص الافتراضيين الذين تتواصل معه تحت أي مسمّــى .. إذا اعجبت بأحد الشخصيات ( صديق افتراضي ، شخصية عامة ، شاب ، فتاة ) إفتراضياً .. فذكـّر نفسك دائماً أنك مُعجب به / بهـا ( افتراضياً ) .. وتوقف ..

لا تحوّل هذا الاعجاب ( أو العكس ، الكـراهية ) الى عالم الواقع أبداً .. حتى يأتي الوقت الذي تعامله فيه واقعياً ، ومن ثم تحكـم عليـه بناءً على عالم الواقع .. وليس بناءً على حسابه على تويتر ، او فيسبوك ..

لأنك في النهاية ستكتشف أننا كلنـا - بلا استثنـاء - نعيش لعبة الاسقاطات الخاطئة تلك طول الوقت ، بشكل تلقائي ..

بمعنى آخر ، ربمـا سوف تكتشف في مرحلة معينة - كما اكتشفت انا بشكل واضح - أن أغلبنـا نحب ونكـره بعضنا ، نُعجب ونبغض ، نميــل وننفــر من بعضنا البعض ..

لأسباب غير موجودة بالواقع أساساً .. هي كلها اسقاطات عقلية بناءً على واقع افتراضي لا أكثر !