الحبُّ ليس شعورًا عابرًا كما يظنّ الناس، بل هو طاقة خفيّة تسري في الكائن كما يسري الضوء في العتمة.
حين يولد لأول مرة، يشتعل فينا كالنار الأولى، يملأ الوجود بحرارته وضيائه، ويُخيَّل إلينا أنه أبَدٌ لا يزول، وأننا لمسنا جوهر الخلود في لحظة واحدة.
لكن النيران، مهما بدت خالدة، لها مصير محتوم؛ فالحياة لا تسمح لنارٍ واحدة أن تحكمها إلى الأبد.
إذ سرعان ما تهبّ ريحٌ أخرى، أشد وهجًا وأعمق أثرًا، تلتهم ما قبلها وتعيد رسم حدود القلب من جديد.
وهكذا يتحوّل ما كان لهيبًا عظيمًا إلى شمعةٍ صغيرة في زاوية الروح، ضوؤها خافتٌ لكنه لا ينطفئ.
تبقى هناك كذاكرةٍ ساخنة، كحنينٍ يتوارى في صمت الأيام، وكأنها تقول: «أنا لم أمت، بل صرت ذكرى تستحق الاحترام.»
ومع مرور الوقت، حين يهدأ صخب المشاعر وتستقرّ النفس في حكمة التجربة، يعود الإنسان لينظر إلى تلك الشمعة بعينٍ أقل اضطرابًا وأكثر وعيًا.
يبتسم، وربما يهمس في سرّه: ما زلت أحبك، ولكن بعقلٍ لا يطلب، وبقلبٍ لا يحترق.
إلا أنّ القلب كائنٌ متمرّد على الذاكرة والعقل معًا؛ فهو لا يؤمن بالثبات، بل يخلق نيرانه كلّما وجد سببًا جديدًا للدهشة.
فتأتي امرأة أخرى، لا تشبه الأولى في الملامح ولا في الحضور، لكنها تشبهها في المعنى — في تلك القدرة الغامضة على إحياء ما ظننّاه قد مات.
تقتحم القلب كما تقتحم الريح الأبواب المغلقة، لا عن رغبةٍ أو قرار، بل عن قَدَرٍ لا يُرَدّ.
تفرض وجودها كحقيقةٍ لا تقبل النقاش، وتُعيد ترتيب خرائط النفس كما يُعيد الزمن رسم ملامح الجبال بعد العواصف.
هكذا يُصبح القلب ميدانًا بين نارين:
نارٍ قديمةٍ تسكن العمق كحكمةٍ وحنين، ونارٍ جديدةٍ تُعلن عن نفسها كحياةٍ أخرى تستحق العيش.
وفي هذا التنازع بين الذاكرة واللحظة، بين ما كان وما يمكن أن يكون، يُولد الوعي العاطفي الحقيقي.
حينها يدرك الإنسان أن الحب ليس امتلاكًا ولا استمرارًا، بل تجربةٌ تُعيد تعريفه بنفسه في كل مرة.
فالحب، في جوهره، ليس اشتعالًا ولا خمودًا، بل هو التحوّل الأبدي بين الاحتراق والنور.
إنه امتحانُ الروح في قدرتها على البقاء صادقة رغم التغيّر، نقيةٍ رغم الألم، وحيةٍ رغم كل ما فقدته.
فما رأيكم أنتم؟
أيهما أصدق وأعمق في جوهر الإنسان: نارُ الحب الأولى التي تترك فينا البراءة، أم النار الثانية التي تُنضج فينا الفهم وتُعلّمنا معنى الخلود؟
التعليقات