فجأة و من دون مقدمات وجدت نفسي أعتزل بني جلدتي و أقراني. انتابتني رغبة شديدة في الافصاح عن أصلي و فصلي و عن كل ما يخصني. امتطني إرادة جامحة في البوح عن سر عائلتي المدفون في أعماق حكم الحكماء، و المخبئ بعناية في قمم جبال الكتب و المخطوطات...ضقت ذرعا من التعتيم و الكتمان، آن الأوان حتى يعرف الجميع كل أمر يخصنا. منذ هذه اللحظة بالذات فلا مزيد من الألغاز و الأحجيات...

قررت اليوم أن أضع كل أوراقي على الطاولة، و أن أكشف عنها كلها واحدة تلو الأخرى ثم أفصح بكل شفافية عن قواعد اللعبة الغامضة. بعد اليوم، لن أخاف من شباك الصيادين و لن أهاب بنادق القناصين و لن أرتعب حتى من مكائد الشياطين.

من الآن فصاعدا همي الوحيد هو الاقتداء بأسلافي الصالحين من العشيرة البيضاء، و بهذا لن يرعبني أي فرد من العشيرة السوداء، و لن يثنيني أي شيء عن عزمي و عزيمتي حتى أستقر في قرارة دماغك و أعشش في تفكيرك أيها القارئ الكريم.

نعم لا تستغرب، فأنت كريم و جواد و لا تعتبرني من فضلك مجاملا و لا متملقا، لأنك لو لم تكن كذلك لما منحتني وقتك الثمين لكي تقرأ ما خطته أنامل صاحبي، و بالتالي لكي تصغي لي و أنا أخاطبك من خلاله.

قبل أي شيء، اسمح لي من فضلك أن أعرفك بنفسي حتى تتعرف على هوية مخاطبك. أنا فكرة يتيمة مجهولة الإسم و النسب، حديثة العهد في هذه الدنيا. كبرت و ترعرت في ملجأ للأيتام، يوجد على مقربة من قرية تدعى "وسادة صاحبي" في أعلى نقطة من تلة " السرير" المتواجدة أصلا بمقاطعة " غرفة النوم".

فيه نشأت صحبة العديد من الأفكار من مختلف القبائل، قاسمها المشترك الوحيد هو أنها كلها متخلى عنها...مجموعة منها مكسورة الأجنحة، و عصابة أخرى محروقة الأطراف، و شرذمة منها من لم تبلغ بعد أشدها، و جيش عرمرم منها ليست سوى كتائب من الأطفال الخدج.

الآنسة " تفكير"، هكذا كان إسم القيمة على دار الأيتام. سيدة جليلة و محترمة من الكبير و الصغير. مثقفة حتى النخاع، لا نسألها عن أمر أو مسألة إلا و عندها الجواب الشافي و الخبر اليقين. أنيقة دائمة التألق رغم كونها طاعنة في السن.

لقد عاصرت الأوائل من الأفكار و أواخرها. عايشت أزمات الحروب الفكرية و أرخت لفترات السلم الفكري، حتى أنها صاحبت أسياد القوم من المفكرين و تخلت عن أنذالهم من المهرطقين.

بالرغم من حياتها الطويلة الزاخرة و الحافلة بالنجاحات و الانتقالات، إلا أنها قررت أن تهب المتبقي من عمرها في خدمة كل الأفكار المهجورة و المتخلى عنها، ترعاها و تصونها إلى أن تستطيع الاعتماد على نفسها و الاستقلال بشخصيتها.

خلال واحدة من دروس "كيفية تطوير الأفكار " و التي كانت تلقيها علينا ثلاث مرات في الأسبوع، بذلك المدرج الكبير المتواجد في الجانب الشرقي من الدار، والذي على بابه الواسعة علقت لافتة كبيرة مكتوب فيها "مدرج التأمل "، ألقت علينا الآنسة " تفكير" درسا استثنائيا لن أنساه ما حييت.

قبل أن تشرع في خطابها الحماسي كالمعتاد، التففنا حولها كما تلتف الفراخ حول أمها و جذبتنا إليها بهيبتها كما يجذب المغناطيس نشارة الفولاذ. وضعت نظاراتها الطبية ببطء، و رمقتنا بنظراتها الحنونة ثم قالت:

《 بنات أفكاري،

لا تظنن أننا معاشر الأفكار مخلوقات استثنائية كما يظن البعض. على العكس تماما، بل نحن أيضا تسري علينا قوانين هذا الكون و نواميسه. نتكاثر و ننذثر، نكون شبابا و نصير شيوخا، نمرض و نتعافى، نموت و نحيا. لسنا على نفس الشاكلة و كنا طرائق قددا، فمنا الصالحات و منا دون ذلك.》

قاطعتها فكرة مقصوصة الأجنحة و شارذة الذهن:

《يا آنستي، هلا أوضحت لنا كيف تسري علينا هذه القوانين؟ و نحن في الأصل لا وجود لنا إلا في عقول الناس ؟ 》

إبتسمت من بساطة سؤالها، و أبدت إعجابها بفضول تلك الفكرة المتخلى عنها،ثم واصلت خطابها :

《 نتكاثر و نتوالد بالمطالعة و القراءة و التفكر، و ننذثر بالخمول و الكسل و بكل ما يخدر العقل. نصبح أكثر شبابا بأمور بسيطة كقراءة كتاب جديد أو كالسفر نحو وجهة جديدة، و نصير شيوخا إن استولت الرتابة و الروتين على حياتنا و لم نجدد العهد مع ثقافتنا.

نمرض إن توقف الإنسان عن القراءة و الاكتشاف، و نتعافى بإذن الله إن هو عاد إلى جادة الصواب. طبعا نموت، أفلم تسمعن قول ربنا الكريم في محكم تنزيله:

" كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" ، و موتنا ليس مرهونا بموت صاحبنا، فكم من فكرة عمرت بعد هلاك صاحبها، إنما نموت عندما نودع في مستودع الأموات بعد أن يتخلى الجميع عن رعايتنا.》

بعد بسملة بصوت مهموس و خافت، رشفت رشفة صغيرة من كأسها التي تحتوي على شراب " الثقافة"، و هو عبارة عن خليط من عصارة التجارب و رحيق الكتب ممزوجين بعصير الاستفاهامات، ثم أكملت حديثها قائلة:

《 لا بد أن أذكركن يا صغيراتي أنه رغم اختلافاتنا البينة و الجلية، فكل فكرة منا لا تننتمي إلا لواحدة من العشيرتين المتناقضتين : البيضاء أو السوداء.

أما العشيرة البيضاء، فهي إسم على مسمى، و تضم خيرة و أفضل بنات الأفكار. و تنقسم بدورها إلى ثلاث قبائل متضامنة.

أما أولها فهي نادرة الوجود و لم يبق أصلا أي أحد من أفرادها. إنها قبيلة " الوحي"،و هو ذلك الأمر الإلهي الذي اختص الله به من اصطفاهم من أنبياء و رسل.

ثانيها قبيلة " النفحات" و كل أفرادها متخصصون في زيارة و عيادة أدمغة الأولياء و الصالحين و العباد المومنين. فتأتيهم خلال أو بعد عباداتهم و طاعاتهم، فتستولي على ذواتهم و تحسن أمزجتهم و تنسيهم الدنيا و ما فيها من هموم.

أما ثالثها فهي قبيلة " الإيجابية". أفرادها يتنتشرون في كل مكان و و زمان، يطوفون حول الرؤوس الممتلئة بالمعارف و حول أصحاب القلوب الطيبة، فإن هم أمسكوا بهم بأية طريقة كانت، انتفعوا بهم و غيروا حياتهم نحو الأفضل.》

سكتت للحظات، حتى ظننا أنها لن تواصل درس اليوم. بدت على وجهها علامات الامتعاض و التوجس و كأن أمرا سيئا قد حدث لها و نحن لا نعلم. مسحت جبينها التي تصببت عرقا و استجمعت قواها. رشفت رشفة كبيرة هذه المرة حتى فرغت كأسها، ثم استدركت ما فاتها و واصلت الدرس.

《 سأحدثكن الآن يا صغيراتي عن العشيرة السوداء، و هي كذلك إسم على مسمى. جميع أفرادها يعشقون الظلام و يشجعون على الأحزان و يقتاتون على الدموع و القلوب المكسورة. تتفرع هذه العشيرة المريعة بدورها إلى ثلاث قبائل متطاحنة.

قبيلة " المهلكات" و كل أفرادها سفاحون لا يعرفون الرحمة. يرتكبون المجازر الفكرية و الإبادات الجماعية لكل ما هو فكرة خيرة. يشتغلون بكل تفان و بلا كلل تحت إمرة إبليس اللعين و جنوده.

يحومون حول الرؤوس المخمورة و المخدرة و حول أصحاب القلوب القاسية و المريضة. فيخترقون بكل سهولة أجواء أدمغتهم منهارة الدفاعات أصلا. حتى إذا استقروا بها و استعمروها، نفثوا فيها سموم الكفر و الإلحاد، ثم غرزوا فيها أنياب الشرك و الجريمة و الانتحار...و ما إلى ذلك من شرور فكرية.

ثانيها قبيلة " الوساوس"،و هي من أهم قبائل العشيرة السوداء. كل أعضائها متمرسون في فنون الجاسوسية و بارعون في مهارات التنكر. منتشرون في كل مكان و زمان و لا ينجو أي واحد من خبثهم و مكرهم.

تتسلل إلى أدمغة الناس بمساعدة ثمينة من إبليس و جنوده، فتستقر فيها حتى من دون أن تكتشفها رادارات الدفاعات الدماغية. الشك هو أهم أسلحتها و أفتكها على الإطلاق. ليس الشك الذي يؤدي إلى اليقين، بل ذلك المؤدي إلى الجنون. فيشك المرء في نفسه و في حركات ظله، و في كل ما يقوم به و لا يدري إن كان قد فعله لتوه أم لا. و بهذا يغرق الإنسان في دوامة الوساوس و يختنق حتى الموت بحبال الاضطرابات النفسية.

أما ثالث قبيلة من قبائلها فهي أكثرها نفرا و أسرعها أثرا. قبيلة تدعى " السلبيات"، معروفة بعبوس أفرادها و بتشاؤمهم المزمن. هذفهم الأساسي تدمير كل مصانع الأمل و تخريب كل مولدات التفاؤل في أدمغة ضحاياها. يصطادون الناس كما تصطاد الشباك الأسماك، فيعيثون فيهم تشاؤما بعد أن يزرعوا فيهم ألغام اليأس و قنابل القنوط من رحمة الله.》

مرت الساعات و الأيام و لم تتوقف عقارب الساعة عن الدوران، لكنني ظللت على هذه الحال و تربيت في دار الأيتام تلك لمدة ليست بالهينة. تلقيت فيها الدروس و الدورات التكوينية إلى أن تخرجت بامتياز، و أصبحت فكرة خبيرة و مخضرمة يحترمها الكبير قبل الصغير.

كنوع من العرفان بالجميل و رغبة مني في جزاء الإحسان بالإحسان، قررت بدوري أن أنذر نفسي لرعاية الدار و ساكنيها.

فلقد فتعلمت من أخطاء من حرقت أطرافها، و استفدت من تجارب من كسرت أجنحتها، وساندت من لم تقوى بعد على مواجهة هذا العالم، كما اعتنيت بالرضع الخدج حتى صرت لهم كالفكرة الأم.

ذات ليلة بعد أن أطفأت أنوار غرف نوم الأفكار الصغيرة الكائنة بالطابق العلوي، وقفت وسط ساحة الدار أراقب عن كثب تلك الوسادة البيضاء التي تحول بيني و بين تلك الرأس. تملكتني رغبة شديدة في الخروج من عالم دار الأيتام و خوض غمار مغامرة جديدة في عالم جديد.

فجأة و من دون سابق إشعار، لم أشعر بنفسي إلا و أنا أبصر بعيني المندهشتين أجنحتي الفتية مبسوطة في الفراغ و مرفرفة في كبد السماء. نظرت باستغراب إلى قدمي الرقيقتين المرتفعتين عن البلاط الفسيفسائي للساحة و المتدليتين في وسط الهواء... إن ما أراه ليس بأحلام اليقظة، نعم قد فعلت ما عجز عن فعله "عباس بن فرناس" ،نعم فأنا حقا أطير !

ما فتئت حتى وجدت نفسي خارج أسوار الملجأ.

حلقت عاليا بكل ما أوتيت من قوة حتى أبتعد بأقصى سرعة ممكنة. تجنبت سحب الأوهام الكثيفة بكل رشاقة و انسيابية، و الفرحة تغمرني و السرور يكسوني. أضحيت على بعد خطوات قليلة من تلك الوسادة الآسرة، بضع خطوات فقط هي من تفصلني عن تلك المخدة الفاتنة.

فجأة لم أعد أستطيع التحكم في حركاتي و لم أتمكن من التوقف لا في الوقت و لا في المكان المناسبين. هل هي الرياح العاتية التي تمزق الأشرعة؟ أم أنها أجنحتي الفتية هي من خذلتني بهذه الطريقة البشعة؟ هل وقعت في شراك شباك واحد من صيادي الأفكار؟ أم أصابتني رصاصة منطلقة من بندقية أحد قناصي الأفكار؟ كم أتمنى من أعماق قلبي أن لا أكون فريسة لإحدى مكائد الشياطين !

لست أدري هل هو سوء حظي أم حسن حظ صاحبي؟ فقد كان هبوطا اضطراريا مؤلما على أرضية رأسه.

بعدها فقدت الوعي كليا، و فقدت الإحساس بالعالم و كأنني جثة تنتظر أن تشيع إلى متواها الأخير.

عندما استيقظت و استرجعت وعيي، فتحت عيني المنهكتين بصعوبة كبيرة، وجدت نفسي مستقرة في قرارة تلك الرأس المتعطشة للأفكار و عششت في تلك الدماغ اللينة.

فلم أزل على تلك الحال حتى قيدني صاحبنا بقلمه الماكرة، و كبلني بين سطور هذه الورقة و كلماتها   بواسطة الخيوط التي حاكت هذه القصة.

الدكتور الزروالي محمد جمال الدين

دكار ٢٦ فبراير ٢٠٢٢