حيفا (حلمي الذي هجرني)

**************

**** شكراً للمهندس الصديق إبراهيم حسنين الذي ذكرني منشور له على الفيسبوك  عن حيفا بهذا الحلم، و الشكر موصول كذلك للصديق رامي يزبك الذي وضع  إيموجي حزين على تعليقي على المنشور المذكور أعلاه.

*******

لفترة طويلة جداً و حتى وقت قريب، كنت أحلم ليلاً بحيفا بشكل متكرر، حيث يبدأ معي الحلم  من مجدو متجهاً غرباً بسيارة مرسيدس قديمة (موديل 180)  إلى حيفاحيث أدخلها من مدخلها الشرقي عند بلد الشيخ. (حيث الشجرة الصامدة التي رفضت أن تقتلع من قبل الجرافات التي كانت توسع الطريق هناك (ذلك حسب الأسطورة الفلسطينية التي رواها لي والدي في أوائل السبعينات).

كان الحلم يصحبني ربما لليلة كاملة، و أنا أتجول في شوارع حيفا و حواريها و شواطئها و تلالها ومعالمها الجليلة، فأمر ف  شارع الناصرة و واديي الصليب و  النسناس و الريفنري و الميناء و ساحة الحناطير و شارع الملوك، وجامع  الاستقلال و ضريح عز الدين القسام، و محطة القطارات،  و برج الساعة و مسجد الجرينة  و ربما شاطئ العزيزية ثم أصعد إلى الهادار و الكرمل.

لم أعرف حيفا قبل عام 1948 طبعاً، ولكن أكاد أن أقول إني أعرف كيف كانت في الأربعينات و الثلاثينات من القرن الماضي،  ربما أكثر من  جنين و اربد و رام الله تلك المدن التي عشت بها طويلا.

 ذلك أن ما رواه لي أبي و أمي "رحمهما الله" عنها يملأ كتباً و أسفار، و كم أنا نادم  أشد الندم و الحسرة على أني لم أقم بكتابة تلك الحكايات في حينها، أو تسجيلها على الأقل بالكاسيت، بقي في الذاكرة منها ما يكفي لأن أحلم و لسنوات طويلة بحيفا كل يوم، و ضاع من ذاكرتي "المثقلة بالذكريات حلوها و مرها" الكثير الكثير.

أول مرة زرت حيفا كان في عام 1969، كنت أبلغ من العمر ست سنوات، و لا أنسى مشهدين من تلك الزيارة،

الأول حديث أبي عن الشجرة في مدخل حيفا الشرقي ( بلد الشيخ) و التي قيل لي أن كل جرافة مغتصبة كانت تحاول الاقتراب منها لقلعها لتوسيع الشارع كانت تتعطل، فآثرث بلديتهم المحتلة أن تترك الشجرة بحالها، وقد و ظلت لفترة طويلة منتصبة هناك في منتصف الشارع، (لا أعرف اليوم ما إذا كانت ما زالت تلك الشجرة هناك أم أن حتى الشجر و جذوره قد تخلى عن أرضه كما تخلى عنها البشر) فأنا لم أزر حيفا منذ 32 سنة.

المشهد الثاني، و الذي مازال محفوراً في ذاكرتي، كان دموع أمي الخجلة لما وقفت على الهادار و نظرت صوب البحر، ذرفت يومها دمعة أو دمعتين، رأيتهما كأنهما حبتي لؤلؤ بصدق يتركز بهما كل ألم الحنين إلى ملاعب الصبا و الحب الأول، و خرجت من صدرها آآآآآآآآآه طويلة و عميقة،  فكانت كأنها سكين قطع القلب و الروح إلى نصفين، فأشاح أبي بوجهه عنا إلى صوب الجبل، لعله أراد أن لا نراه يبكي و يتحسر هو الآخر.

حدثني أبي و أمي عن حيفا  كثيراً ، فقد كانت موطنهما لسنوات قبل عام 1948 (كان يسكنان في شارع الناصرة)، حيث كان يعمل أبي في الميناء "ورافقه في ذلك عمي الأديب أبو نعيم والد الشهيد عمر).   

مثلا قال لي أبي أنه شاهد في سينما (آرمون و الواقعة  حينها بين الهادار و وادي النسناس) فيلم عربي بطولة أسمهان و ربما فريد الأطرش، و بناء على ذلك الفيلم أسمى ابنته الكبرى "سهيلة" ، و  ابنه البكر  "سمير"  كأسماء أبطال ذلك الفيلم الذي يروي قصة حب رقيقة رومانسية ظلت عالقة في ذاكرة والدي حتى وفاته في عام 1981.

لقد كانت حيفا في ذلك الزمن السحيق البعيد المتلاشي كالأسطورة البابلية (زمانا و مكانا و شعورا) مدينة متروبولتونية، عاصمة للثقافة و الفن  و العمارة و الاقتصاد و التجارة و  النقل البحري و البري و السكك الحديدية،  ليس لفلسطين فحسب بل للشرق كله .

كان يزورها الفنانون و الأدباء و المفكرين  ورجال العلم و الاقتصاد و السياسة منى شتى بقاع الشرق و الغرب بشكل منتظم و متكرر، لا بل أن والدي رحمه الله  وقد ذكر لي  أن كثير من مواطني خليج العرب و نجد و الحجاز و اليمن (لما كان هناك عرب)  كانوا يعملون في حيفا سعياً وراء لقمة العيش و يقيمون فيها.

أصبحت حيفا بعيدة في شتى المعاني، و بقي الرابط الوحيد لي معها هو الحلم شبه اليومي و الذي يبدأ  كما وصفت لكم أعلاه ثم ينتهي بطريق العود ة و أنا خائف مرتعب من أن لا أتمكن من الوصول إلى جنين خاصة عند مجدو (اللجون)   و قبل سالم و زلفة و قبل العبور إلى مفرق زبوبا رمانة.

يا إلهي!!!!!هذه الحدود المصنعة دخلت حتى في صلب أحلامي، فما أقساها من حدود  تلك التي تلاحقنا نهاراً و ليلا.!!!!!

ظل هذا الحلم يرافقني معظم الليالي و لسنوات طويلة،  و لكني منذ سنتين أو ثلاثة توقف عن زيارتي و مناكفتي و مداعبة ذكرياتي و حكايات أبي وأمي عن حيفا، لعل الحلم أراد أن يترفق بي لإ فربما لم يعد القلب المثقل بضغط الدم المرتفع و الكوليسترول و ألم الهزائم و التخلف و التفتت و التشرذم بقادر على تحمل أي مقدار إضافي من ألم ذاكرة الفقدان و الخسران.  باختصار، حتى الأحلام اقتنعت أن حيفا قد رحلت، فليس هناك عائد من حيفا يا غسان ، و لكن هناك حيفا التي لم تعود.

لقد اشتقت لك يا حيفا حتى و لو حلم أو حتى كابوس، وحتى لو أنني لم أستطع عبور مجدو  شرقاً في طريق العودة إلى جنين.

******

محمد أبو المجد جرار

البيرة- فلسطين

22/2/2022