لم يكن "حسن" رجلاً سيئا، ولم يكن طيبًا بما فيه الكفاية. كان موقنا بأن الخوف هو ما يحرك البشر ، وأن الطيبة رمز للضعف لا تليق برجال الأحياء الشعبية. بين زحام السوق والصوت العالي يربح الجدل، والقبضة هي أول الحُجج.
____________________
"سمير"، جاره القديم، زميل المدرسة الإبتدائية، أو فلنقل صديق الطفولة، أو الطفل الذي كان يتنمر عليه، على عكسه تمامًا. وجهه هاديء، وصوت بالكاد يُسمع، لا يرد الإساءة بالإساءة، ولا يقطع الحديث، ولا يُحاسب على زلّة. يلتمس لأخيه ألف عذر"، ليس بالشخص المثالي، قد يخطيء أحيانا لكنه يحاول ألاّ يؤذي أحدا، بمفهومنا كان انسانا صالحا. ويا فرقا بين سمير و سليم.
لم يهضم حسن هذا النوع من الناس. بنظرة ازدراء يرى فيهم ضعفًا متخفيًا بثياب الأخلاق. وعاجلا أو آجلا سيتمُّ إلتهامهم أحياءًا، وبين هذين النقيضبن أو ما يبدو من أفعالهما. كان ما يُغضب حسن حقًا، هو أن سمير كان محبوبًا، يحترمه كبار الحي، ويثق به الأطفال، وحتى خصومه لا يجدون في أنفسهم رغبة حقيقية في أذيته.
وكعادة حسن، لا يمر يوم واحد إلا وكان عليه إفتعال شجار، تلاسن مع أحد شباب الحي، واشتعلت الأمور.
لم يكن مُخططا له:
لم يخطط سمير للمرور من ذاك الطريق اليوم. لكن شاءت الأقدار، أين تلاسن حسن مع أحد شباب الحي، واشتعلت الأمور.
لم يحاول سابقا التدخل مباشرة لكنه كان يلتمس الأعذار لصديق الطفولة مع كبار الحي، فقد توسط له مرتين قبلا، ولو كررها فقد لا يتم قبولها.حاول بحسن نية التدخل،حتى لا يتصاعد الوضع، محاولا التهدئة، وفور سماع حسن صوت سمير، مرّت سلسلة من الأفكار والتصورات داخل عقلة، هذا إن كان في عقله تلك اللّحظة. نسي خصمه وتوجه إليه باللّعنات مكملا "ما دخلك أنت؟ دائمًا تتدخل وكأنك نبيّ الحارة!"
إمتزجت ضحكات المتفرجين بالخوف، فالجميع يعلم أن سمير هو من حاول مساعدته بالتوسط مع كبار الحي قبلا، إلا هو أو أنه اعتبر هذا الأمر غبيا.
ضحك سمير بحرج، وقال: "أحاول فقط أن أطفئ النار، لا أكثر."
فرد علي حسن مستهزئًا وبنبرة أشد:
– "أنت...أنت لا تطفئ النار، أنت ماءٌ لا لون له ولا طعم. لا قيمة لك!"
____________________
سكت سمير، تغييرت ملامح وجهه، غادر.....
.....
مع تناقص صوت الشِّجار، لا لأنه تم فكُّه، بل لأننا إبتعدنا عنه
.........
____________________
صباح اليوم التّالي عُلّقت على الجدران أوراق تحمل: " ببالغ الحزن والأسى تعلن عائلة محفوظ عن وفات الأب محفوظ سمير بن السيد عبد الباري، وستشيع جنازته اليوم بعد صلاة الظهر بمقر سكناه، إنا لله وإنا إليه راجعون"
انتشرت أخبار بين النّاس "سمير توفي بسكتة قلبية وهو يقود دراجته للعمل."
خيم الحزن ، حتى الذين يعرفونه معرفة سطحية. لكن أكثرهم صمتًا كان حسن.
لا شجار اليوم، بل إنه إعتزل النّاس، هل يذهب للجنازة أم لا، هل يمكن طلب المغفرة من الميّت، أولاده من سيتكفل بهم، هل لوالدتهم القدرة على ذلك؟، أحدهم رضيع . سمير، تلك الدراجة كانت مصدر رزقهم الوحيد، هي تحطمت، وسمير ذهب إلى ربّه.
قد يكون سامحني، إنه سمير......
ياااربي.
______________________
كانت مجرد آمال، أو دعوة للتغيير
______________________
قرر الذهاب إلى الجنازة ، ونظرات من شهد شجاره بالأمس تلخص كل شيء، لم يَحنِى حسن راسه قبلا إلا اليوم، ، بوجه شاحب ،احساسٌ بأن شيئًا في داخله قد انكسر. نظر إلى وجه صديقه المسجّى وقد نُزع منه النبض، ولم يملك إلا أن يهمس:– "لم أقصد... كيف حدث ذلك..."
الجثة لا ترد. والرّاحلون لا يعودون بعد الغياب ليعطوك فرصة أخرى للاعتذار.
في المساء، جلس حسن وحده في بيته. لم يكن في وعيه اتصل بالرقم، ردت علي طفل صغير... مرحبا، أغلق المكالمة مباشرة. تأمل الجدار، لم يبقى له غير الجدار ليتامله. وآمال برؤية سمير في الحلم يخبره بأنّه سامحه.
صار حسن أكثر صمتًا ربما فقد عقله لا أحد يعرف، ابتعد عن المجالس، وإذا ذُكر أحد بسوء، أعرض، وإذا لقي شجارا في الشارع سارع إلى فض النزاع محاولا إطفاء النّار لا أكثر.

التعليقات